مقدمة
لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في قلبه، ويقينًا صادقًا في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه، لما رأى منه حبًا جارفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل، واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه حسنًا رفيعًا عاليًا، لما علم منه سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاء، لما رأى منه كل ذلك وغيره، أنعم عليه بنعمة عظيمة وهِبة جليلة، أنعم عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإيمان، وعلى الإسلام، الثبات على الطاعة وحسن الخلق، الثبات على العطاء، الثبات أمام الفتن، كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم عظيمة، خفية كانت أم ظاهرة.
والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات، ولكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ.
ولكن العجيب في حياة الصديق رضي الله عنه أن ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي كل المواقف منذ أسلم، وحتى مات، مهما تغيرت الظروف والأحوال، والثبات فعلًا شيء عسير، الدنيا من طبيعتها التقلب، من النادر أن تجد فيها شيئًا ثابتًا، كما قالوا قديمًا: دوام الحال من المحال، يقول سبحانه:
[يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ] {النور:44} .
ويقول:
[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:140} .
ويقول:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] {الحج:5} .
هكذا الإنسان دائمًا في تقلب، والأرض كذلك دائمًا في تقلب، والقلب أيضًا كذلك، كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه سريع التقلب.
روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ.
فقلت:
يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟
قال: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ.
ويزداد الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حوله، فقلب قد يثبت على حاله من الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا اغتنى الإنسان فتن، قد يثبت في بلد، ويفتن في آخر، قد يثبت في عمل، ويفتن في آخر، قد يثبت في سن، ويفتن في سن آخر، بل قد يثبت في نهار، ويفتن في ليل، بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس متروكًا في حاله، كثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، الشيطان لا يهدأ ولا يستكين
[ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] {الأعراف:17} .
فالدنيا مجموعة متراكمة من الفتن
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5} .
النفس، نفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي] {يوسف:53}.
وشياطين الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المتقلبات يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟ وهو القلب المشهور بالتقلب، والقلب إن كان ضعيف الإيمان فتقلبه خطير
[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] {الحج:11} .
والنجاة من التقلب عسيرة إلا إذا مَنّ الله بها على عبده، والله لا يَمُنّ بالثبات على عبد خامل كسلان، بل لا بد أن يقدم شيئًا، اسمع إلى قوله عز وجل:
[لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} .
إذن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات، جميع الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، اقرأ إن شئت كلام الله سبحانه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا] {الإسراء:74} .
واقرأ معي قوله تعالى:
[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .
وأكثر المسلمين اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأكثر المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، حياته عجيبة رضي الله عنه وأرضاه، كم من الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه، روى الترمذي وغيره حديثًا وقال: حديث حسن. يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي عرضت للصديق رضي الله عنه في حياته، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.
ولكون الصديق هو الأمثل في الإيمان، بعد الأنبياء، فإن ابتلاءه كان شديدًا. ولنتجول في حياة الصديق رضي الله عنه، نتعرف على طرف من ابتلائه وطرف من ثباته.
ثباته أمام فتنة المال
وقصدت أن أبدأ بها؛ لأنها فتنة عظيمة، وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى، فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها، ويقول أحد الصحابة:
ابتلينا بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر.
حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه رضي الله عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:
- فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟
ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس الصديق الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا وضح فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي تلي الإبهام.
ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل هذا لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ.
- أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة، وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله:
أين تريد؟
قال:إلى السوق.
قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين.
قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل، يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال! فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له، إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل الصديق رضي الله عنه، ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله، وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم.
- وانظروا إلى الصديق، وهو على فراش الموت، بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني، انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة التي دكت حصون فارس والروم، يقول مخاطبًا عائشة رضي الله عنها:
أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم دينارًا، ولا درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط) في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب، وهذه القطيفة (كساء في بيته رضي لله عنه)، فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير الناضب، والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن.
تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما جاء الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر، بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول:
رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وجاء في رواية أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته، إذ قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها.
يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، يرى الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف، كما ثبت في روايات أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.
فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال:
رحم الله أبا بكر، لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا.
هذا طرف من ثباته أمام فتنة المال
ثباته أمام فتنة الرئاسة والمنصب
فتنة الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير، وكثير من الناس يعيش حياة التواضع، فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر، فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن البصري يقول في كلمة عظيمة له:
وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب الرئاسة.
أما الصديق رضي الله عنه، فإنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا:
إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه. والله لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ.
والصديق جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وقعت الكلمات في قلب أبي بكر، وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده.
أشعر أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه، ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال:
إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ.
شهادة من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى، إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى الحقيقة المجردة، تواضع الصديق رضي الله عنه.
وإلى مواقف من حياة الصديق كخليفة ورئيس وحاكم.
ذكرنا بعض المواقف له في السابق، ذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قبل ذلك وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال، والآن نذكر بعض مواقفه الأخرى:
- موقف عجيب من مواقف الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان الصديق رضي الله عنه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه، وذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة:
اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا.
فسمعها الصديق رضي الله عنه فقال:
بلى، لعمري لأحلبنها لكم.
فكان يحلبها، وربما سأل صاحبتها:
يا جارية أتجدين أن أرغي لك أو أصرح؟
أي يجعل اللبن برغوة، أم بدون رغوة، فربما قالت: أرغ. وربما قالت: صرّح. فأي ذلك قالته فعل.
- موقف آخر أغرب، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواش المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة فقال عمر:
أنت هو لعمري.
وكان من الممكن أن يكلف رجلا للقيام بذلك، ولكنه الصديق، يشعر بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الأمة، كما أنه رضي الله عنه قد آثر أن يخدمها بنفسه، يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه على ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
- أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم الجمعة فقال:
إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن.
صدقات الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق، فوضعوها في مكان، وسيدخل في اليوم التالي أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا أبو بكر يحذر الناس، فقالت امرأة لزوجها:
خذ هذا الحظام لعل الله يرزقنا جملًا.
فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل، فدخل معهما، هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة لخليفة البلاد، ودخل عليه بغير إذن، مع كونه نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال:
ما أدخلك علينا؟
ثم أخذ منه الحظام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام، وقال:
استقد.
أي اقتص مني، كما ضربتك اضربني، سبحان الله، فقال عمر رضي الله عنه:
والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة.
يعني كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية، قام المظلوم بضرب الأمير فتضيع هيبته، فقال الصديق رضي الله عنه:
فمن لي من الله يوم القيامة؟
فقال عمر: أَرْضِهِ.
فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة، ورحلها وقطيفة (أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه بها.
هذا خليفة البلاد، وقد ضرب أحد رعاياه ضربة واحدة فقط، ولكنه يريد أن يُضْرب مكان هذا السوط الذي ضرب، حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصًا، ليس لأحد عنده شيء.
- بل اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي تخرج لحرب الروم، في بعث أسامة بن زيد، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى فتح الروم، كان يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء، كان يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال لهم:
لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له.
وتأمل معي يا أخي، أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟!
والله ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام، ورقي الإسلام، ونور الإسلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أين هذا من حروب الشرق والغرب؟
أين هذا من حروب غير المسلمين؟
فالمسلمون قد علّموا غيرهم الرحمة في كل شيء حتى في الحرب.
ثباته أمام فتنة الأولاد
فالمرء قد يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة، إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده، فإنه قد يتردد كثيرًا، فغالبًا ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد، ورقتهم، واعتمادهم على الأبوين، يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، واقرأ قول الله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التغابن:14} .
روى الترمذي، وقال: حسن صحيح. أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية قال:
هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم، وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم (أي يعاقبوا أولادهم)، فأنزل الله:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التغابن:14} .
الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن تقول:
[إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15} .
هكذا بهذا التصريح، التقرير الواضح: إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
أين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات؟
القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه، وأوراقه كانت مرتبة تمامًا، الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل شيء، والصديق مع رقة قلبه، وعاطفته الجياشة، ومع تمام رأفته مع أولاده، كان لا يقدم أحدًا منهم، مهما تغيرت الظروف على دعوته، وجهاده، وما فتن بهم لحظة.
- أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا، محتاجين في وسط الكفار المتربصين، كان يجاهد، ويعلم أنه إذا أراد الحماية للذرية الضعيفة أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة، وكلمة الحق أيًا كانت العوائق
[وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا] {النساء:9} .
- لما هاجر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح، لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر، مخلفًا وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث، وضرب أبو جهل لعنه الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فسال الدم منها، ما رأى الصديق كل ذلك، كل ما رآه هو نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريق الله عز وجل، ليس هذا فقط ولكنه حمل معه كل أمواله، كل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم، خمسة آلاف درهم حملها جميعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وماذا ترك لأهله؟
ترك لهم الله ورسوله، يقين عجيب، وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، أبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان طاعنًا في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره، دخل على أولاد الصديق، وهو على وَجَل من أن الصديق قد أخذ كل ماله، وترك أولاده هكذا، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة بنت الصديق أسماء رضي الله عنها، وعن أبيها، وضعت يد الشيخ على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، الشيخ الكبير لن يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق رضي الله عنه.
- الصديق يوظف أولاده في عملية خطيرة، عملية التمويه على الهجرة، عملية قد تودي بحياتهم في وقت اشتاط الغضب بقريش، حتى أذهب عقلها، عبد الله بن الصديق كان يتحسس الأخبار في مكة نهارًا، ثم يذهب ليلًا إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارسًا على باب الغار حتى النهار، ثم يعود أدراجه إلى مكة، السيدة أسماء كانت حاملًا في الشهور الأخيرة من حملها، ومع ذلك، فكان عليها أن تحمل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق في غار ثور سالكة طريقًا وعرًا، وصاعدة جبلًا صعبًا، وذلك حتى إذا رآها أحد لا يتخيل أن المرآة الحامل تحمل زادًا إلى الرسول وصاحبه، مهمة خطيرة، وحياتها في خطر، لكن ما أهون الحياة إن كان الله هو المطلب، وإن كانت الجنة هي السلعة المشتراة.
- ومر بنا كيف تبرع بكل ماله في تبوك، وما ترك شيئًا لأولاده رضي الله عنه، وأرضاه، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماذا أبقى لأهله؟ قال:
أبقيت لهم الله ورسوله.
- ثم ها هو الصديق يقدم فلذة كبده عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، ها هو يقدمه شهيدًا في سبيل الله، علمه حب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله، فأصيب في الطائف بسهم، ولم يمت في ساعتها، بل بقى أيامًا وشهورًا، ويقال: إنه خرج بعد ذلك إلى اليمامة في حروب المرتدين، واستشهد هناك. الثابت أنه استشهد في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكأن الله أراد أن ينوع عليه الابتلاءات حتى يُنقى تمامًا من أي خطيئة، بل إنه قال كلمة عجيبة لما رأى قاتل ابنه عبد الله وكان قد أسلم بعد أن قتله قال:
الحمد لله الذي أكرمه بيديك (يعني أكرمه الشهادة) ولم يُهْلِكّ بيده (أي الموت كافرًا) فإنه أوسع لكما.
سعيد لأن ابنه قد مات شهيدًا في سبيل الله، وأيضًا لأن هذا الرجل لم يقتل على يد عبد الله، فكانت أمامه فرصة للإسلام، أي رجل هذا؟!
- لكن إن كان لنا أن نفهم كل هذه التضحيات، فإن له موقفًا مع ولد من أولاده يتجاوز كل حدود التضحيات المعروفة، والمألوفة لدى عامة البشر، الصديق رضي الله عنه في غزوة بدر يكون في فريق، فريق المؤمنين، وابنه البكر عبد الرحمن بن أبي بكر في الفريق الآخر، فريق المشركين، ولم يكن قد أسلم بعد، وإذا بالصديق رضي الله عنه يبحث عن فلذة كبده، وثمرة فؤاده؛ ليقتله، نعم ليقتله!
وقف كفر الابن حاجزًا بين الحب الفطري له، وبين حب الله عز وجل، فقدم الصديق حب الله عز وجل دون تردد، ولا تفكير، وضوح الرؤية، نعم وضوح الرؤية إلى هذه الدرجة، لكن بفضل الله لم يوفق الصديق في أن يجد ابنه؛ لأن الله مَنّ عليه بعد ذلك بالإسلام، أسلم يوم الحديبية، ولما أسلم قال لأبيه:
لقد أهدفت لي يوم بدر، فملت عنك، ولم أقتلك.
أي رأيتك هدفًا سهلًا في بدر، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه من أمهر الرماة في فريق المشركين، فقال أبو بكر في ثبات وثقة:
ولكنك لو أهدفت إليّ، لم أمل عنك.
وسبحان الله، وكأن الله أراد أن يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم مثلًا للصديق بعد تخيير الحكم في أسارى بدر، أراد الله أن يشبه أبا بكر بالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلي البلاء المبين بذبح ابنه، فيبتلي الصديق كذلك بالبحث عن ابنه ليذبحه بيده، أيّ مثل رائع ضربه الصديق لهذه الأمة؟!
كيف تغلّب على هذا المعوق الخطير الذي كثيرًا ما خلف أناسًا عن السير في طريق الدعوة، وعن السير في طريق الجهاد؟
[شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا] {الفتح:11}.
لكن هذا لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبق إلى الخيرات، والشعور بأهمية الدعوة، واستحقار أمر الدنيا، وتعظيم الآخرة، كان كل ذلك وراء هذا اللون العجيب من الثبات.
فتنة ضياع النفس وثباته أمامها
والنفس غالية، وإن ذهبت النفس فلا عودة لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق واضح الرؤية، وثاقب النظر، له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {التوبة:51}. من هذه القواعد:
[لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {يونس:49}.
من هذه القواعد:
[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111} .
من هذه القواعد:
[وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78} .
من هذه القواعد:
[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185} .
إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانبًا لا بأس به من حياة الصديق، تعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه، نرقب كيف خلصت نفسه من حظ نفسه:
- تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلًا (يعني في أوائل فترة مكة) ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال:
يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ.
فلم يزل أبو بكر يلح، حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو أن هذا لم يكن ظهورًا كاملًا للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل لم يكن إلا بعد إسلام الخطاب رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، فوقف خطيبًا يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لذا يقولون: إن الصديق أول خطيب في الإسلام.
بعد رسول الله طبعًا، ماذا كان رد فعل المشركين؟
ثار المشركون ثورة عنيفة، وقاموا يضربون الصديق ضربًا عنيفًا، تنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم، دنا الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وذلك من شدة تورم وجهه، وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد، وقالوا:
والله لئن مات أبو بكر، لنقتلن عتبة بن ربيعة.
ثم رجعوا إلى أبي بكر، فجعلوا يكلمون أبا بكر، وهو في إغماءه طويلة، حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، فماذا قال؟
قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
سبحان الله حتى، وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت، طبعًا بنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه، وها هم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة، ولا شك إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب، وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق، فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذه في عرف العرب إهانة لا تستقيم بعدها حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق، ويلومونه، ويكيلون له الكلام، بما فيهم أبوه أبو قحافة، ومع ذلك فالصديق رضي الله عنه له مكانة كبيرة في قلوبهم، التفوا إلى أمه أم الخير وكانت آنذاك مشركة، وقالوا:
انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه.
فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه، وتسقيه، لكنه جعل يقول:
ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمى عليها ثم أفاقت، أيكون لهم من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟!
هكذا أحَبّ الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يزيد، قال الصديق لأمه:
اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.
وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها مشركًا، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت:
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.
هنا نرى موقفًا لطيفًا من أم جميل بنت الخطاب رضي الله عنها، فتلك المرأة المسلمة الواعية الحذرة خشيت من أم الصديق، أم الصديق ما زالت مشركة، أفتكشف نفسها وتعرفها بإسلامها هكذا؟!
وإن فعلت أتثبت له أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول يجلس مع صحابته في دار الأرقم، وقريش لا تعرف ذلك أفتدل هي عليه؟
هنا فكرت أم جميل بسرعة وقالت:
ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله.
لكنها في نفس الوقت تعرف من هو الصديق، فهو الرجل الثاني في الدعوة، وقد يكون في احتياج إلى شيء هام، ثم إنه يعلم أن أمه مشركة، ومع ذلك أرسلها إليها، فأسرعت المرأة الحكيمة، وقالت بلباقة:
إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟
قالت أم الصديق:
نعم.
فذهبت معها حتى دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فوجدته صريعًا ملازمًا الفراش في حالة خطيرة بين الحياة، والموت، فقالت فزعة:
والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
أعرض الصديق عن كل هذا، وكان له همًا واحدًا قال:
فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
احتارت أم جميل رضي الله عنها، أم الصديق واقفة، وستعرف خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهمست إلى الصديق:
هذه أمك تسمع.
قال الصديق مطمئنًا:
فلا شيء عليك منها.
ويبدو أن الصديق كان يرى قربًا من أمه للإسلام، فلم يرى بأسًا من ذلك؛ لأن أمه ما لبثت أن أسلمت، قالت أم جميل رضي الله عنها:
سالم صالح.
قال الصديق رضي الله عنه:
أين هو؟
قالت: في دار الأرقم.
قال الصديق رضي الله عنه في إصرار وعزم:
فإن لله عليّ أن لا أذوق طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانتظروا حتى جاء المساء، وهدأت الرجل بمكة، وسكن الناس، وخرجت المرأتان بالصديق رضي الله عنهم، لا يقوى على السير، ولكنه يتكئ عليهما، سارا به، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تألم لما فيه، وأسرع إليه، وأكب عليه يُقَبّله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فأسرع الصديق يُطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس، إلا ما نال الفاسق من وجهي.
ثم إن الصديق رضي الله عنه، وهو في هذا الموقف لم ينس دعوته، ولم ينس أمه أنها ما زالت مشركة، وها هي ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنوار النبوة على وجهه، فتاقت نفسه إلى إسلامها، قال:
يا رسول الله، هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله، وادع الله لها، عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله، فأسلمت الحمد لله أسلمت رضي الله عنها، وعن ابنها، وعن زوجها، وعن أحفادها، وعن أولاد أحفادها.
كان هذا طرفًا من جهاد الصديق بمكة وبذله لروحه؛ فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاء لدين الله عز وجل، تعالوا نقلب صفحات من جهاده رضي الله عنه في المدينة المنورة.
ثباته في بدر
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة قافلة بني سفيان، وعزم زعماء مكة على قتاله استشار الصحابة في ذلك، الموقف خطير، الصحابة لم يخرجوا من المدينة في الأصل ليقاتلوا جيشًا، بل مجرد قافلة، فلم يكن معهم إلا السيوف، فلم تكن العدة عدة قتال، كما أن هناك أقوام في المدينة كانوا يرغبون في اللقاء، ولكن لم يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقاتل، إذًا من الممكن أن يأتي على ذهن الصحابة، أن لو أجلنا القتال لنقوم به في ظروف أفضل، وعدد أكبر، فرصة ضياع الحياة في هذه المعركة كبيره، والحق أن بعض الصحابة ترددوا، يصورهم ربنا سبحانه وتعالى في كتابه فيقول:
[كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5)يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] {الأنفال:5،6} .
أين كان الصديق رضي الله عنه في هذا الموقف؟
كان أول الرجال قيامًا، يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على القتال، دائمًا يسبق الناس، حتى ولو كان السبق لفقد الحياة، قام الصديق فقال وأحسن، وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من بعده الرجال الواحد تلو الآخر، لكن، سبق بها الصديق، ولما تقرر القتال، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعملية استكشافية، يستكشف فيها مواقع جيش المشركين وعدتهم، قام بالعملية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومن معه؟
إنه أبو بكر الصديق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الأحداث، مهمة خطيرة، ولكن لا أقل من الدنيا في عين الصديق، وتبدأ المعركة، ويلتحم الجيشان، ويتصاعد الغبار، وتسيل الدماء أنهارًا، وتتناثر الأشلاء في كل مكان، يوم الفرقان، فأين كان الصديق رضي الله عنه؟
كان في أخطر المواقع على الإطلاق، كان رضي الله عنه يقف بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه أخطر موقع على الإطلاق، لأن القوم كانوا حريصين على قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثباته في أحد
تعالوا نتحدث عن ثباته في أحد مثلًا، ويوم أحد يوم عظيم كانت الجولة في بدايتها للمؤمنين، ثم خالف الرماة، وعصوا فداول الله الأيام، ونقلها إلى قريش، وأصبحت الغلبة للمشركين، وفر من فر، وثبت من ثبت، ولا شك أن الصديق كان من الثابتين رضي الله عنه، قال الله عز وجل:
[وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] {آل عمران:152} . ولا شك أيضًا أن الصديق كان ممن أراد الآخرة، كان الصديق أول من وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع معه حول الرسول صلى اله عليه وسلم مجموعة من السابقين الأولين، عمر، وطلحة، وعلي، وأبو عبيدة، والزبير، وغيرهم، ودار قتال شرس ما لانت فيه قناة الصديق، ولا من وقف معه، وتم إنقاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسحبوا في مكان آمن، وفي اليوم التالي لأحد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج في أثر المشركين حتى لا يظنوا أن المسلمين قد كسرت شوكتهم، فانتدب المسلمين أن يخرجوا إلى مكان يعرف بـ"حمراء الأسد " فقام له رجال، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان منهم، يروي الإمام مسلم أن عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى:
[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] {آل عمران:172} .
أي الذين استجابوا في الخروج إلى حمراء الأسد، بعد القرح الذي أصابهم في أحد، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
يا ابن أختي كان أبواك منهم، الزبير، وأبو بكر (الزبير أبوه وأبو بكر جده، لأنه كان ابن أسماء بنت أبي بكر)، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركين، خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في أثرهم؟
فانتدب منهم سبعون رجلًا، كان فيهم أبو بكر، والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وأرضاهم.
- ثباته في الحديبية: بعد عام واحد من الاجتياح الرهيب للمشركين لأرض المدينة المنورة، وحصار المؤمنين في المدينة في غزوة الخندق، والموقف العصيب الذي مر به المؤمنون، لدرجة وصفها ربنا سبحانه وتعالى بقوله:
[هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا] {الأحزاب:11} .
بعد عام واحد من هذا التهديد المروع، يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى العمرة في مكة بألف وأربعمائةٍ من الصحابة، والآن يذهبون إليهم في عقر دارهم، فلما علمت قريش بقدوم النبي للعمرة جمعت الجيوش، لتصد المؤمنين عن الكعبة، ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس للشورى نذهب أو لا نذهب؟
قام بطلنا الصديق رضي الله عنه، وقال:
يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد حربًا، ولا قتل أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه.
وتحرك المسلمون إلى مكة، ثم كانت المفاوضات، وانتهى الأمر إلى الصلح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في المفاوضات أمام المشركين، كان الصديق رضي الله عنه واقفًا وراءه بسيفه، وفي جلسة من جلسات المفاوضات، قال عروة بن مسعود الثقفي مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، محاولًا أن يلقي الهزيمة النفسية في قلبه، وفي قلوب المؤمنين، قال:
يا محمد أجمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش، خرجت رجالا ونساءً، صغارًا وكبارًا، قد لبسوا جلود النمور (أي لباس الحرب)، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة، وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك.
يقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنهم سيتركونه عند القتال، وهنا لم يعط الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة للرد، بل انطلق في حمية وجرأة عجيبة، يرد على المشرك، فسبه سبة منكرة شنيعة، ثم قال في ثبات واضح له:
أنحن نفر عنه وندعه؟
أنحن نفر عنه وندعه؟
هذا فعلا هو المستحيل، وصدق رضي الله عنه، وصدقوا جميعًا، فقد بايعوا فعلا على الموت، فسبحان الله، أيّ جيل ثابت كان هذا الجيل العظيم؟
ثباته في حنين
ونقفز أعوامًا أخرى لنصل إلى يوم حنين، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كانت له مواقف مشهودة في كل مشاهد صلى الله عليه وسلم، لكني آثرت التعليق على حنين، حيث فر كثير من المسلمين، وحيث كانت الفتنة عظيمة، فيظهر ثبات الصديق بجلاء، ووضوح، فر المسلمون في حنين، وتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم تجابهه جموع غفيرة من هوازن، والوقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل هذه الآلاف المؤلفة لا يعني إلا شيئًا واحدًا، الموت، لكن:
تَهُونُ الْحَيَاةُ وَكُلٌّ يَهُونُ وَلَكِنَّ إِسْلَامَنَا لَا يَهُونْ
نُضَحِّي لَهُ بِالْعَزِيزِ الْكَرِيمِ وَمِنْ أَجْلِهِ نَسْتَحِبُّ الْمَنُونْ
نعم، كان الصديق رضي الله عنه يستحب المنون، يستحب الموت ما دام في سبيل الله عز وجل، أكاد أراه رضي الله عنه، وهو يصول ويجول تحت فتنة السيوف، وكأنه لا يراها، لا يرى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، يقاتل عن يمينه تارة، وعن يساره تارة أخرى، وأمواج البشر المشركة تتكسر على صخرته رضي الله عنه وأرضاه، فكان الثبات ثم الثبات
[ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ] {التوبة:26} .
الصديق كان ثابتًا في كل مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أيضـًا ثابتًا أثناء خلافته في معاركه.
فتنة ترك الديار والأوطان
وترك الوطن فتنة عظيمة فكم من الذكريات، وكم من الأهل، وكم من الأصحاب، وكم من الأحباب، ترك الوطن فتنة عظيمة، ولا سيما لو كان الرجل صاحب مكانة، وكثير المال، كالصديق رضي الله عنه، فالصديق تاجر، أوضاعه مستقرة، وتجارته رابحة، وها هو يترك الاستقرار، والراحة، وينطلق مهاجرًا إلى أرض مجهولة، وأقوام غريبة، ثم أي البلاد يترك، يترك مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا، يترك البلد الحرام، يترك البيت الحرام، يترك أشرف بقعة في الأرض، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند خروجه من مكة مهاجرًا إلى المدينة يقول:
وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ.
الصديق مع عظم تجارته، واستقراره، هاجر مرتين من هذه البقعة المشرفة إلى غيرها من بقاع الأرض، الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وتحدثنا عنها في موقف سابق وذكرنا فيها أن ابن الدغنة سيد قبيلة القارة أجاره، وأعاده إلى مكة، وكان الصديق في هذه الهجرة متجهًا إلى بلاد بعيدة عبر الصحراء والبحار، إلى قوم لا يتكلمون العربية، وإلى بلد لم يألف العادات المكية، لكن الصديق هاجر، ولسان حاله يقول كما قال النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا يحتذي به الصديق رضي الله عنه قال:
[وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] {الصَّفات:99}.
والهجرة الثانية كانت إلى يثرب، والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة لما نورها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، وقد ذكرت سابقًا فقرات من هذه الهجرة المباركة، وفيها برز الدور العظيم للصديق سواء في الإعداد قبل الهجرة، أو أثناء الهجرة، وسواء في المساعدة المادية، أو المعنوية، وسواء في التضحية بالنفس، أو بالمال، أو بالجهد، أو بالوقت، كان الصديق رضي الله عنه في الهجرة ثاني اثنين، وهذا يكفيه، يكفيه أن يكون ثانيًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن الديار، والأوطان، والأملاك، والأعمال ما وقفت أبدًا مهما تعاظمت أمام إيمان الصديق رضي الله عنه، وك