الدرس الثاني : سوء أدب المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان المنافقون في المدينة فئة اجتماعية مزعجة ، مندسة بين المسلمين في حضور الجمع والجماعات ، والمجالس الخاصة ، وتحسبهم مع المسلمين في الظاهر والباطن ، وهم في حقيقة الأمر من أشد الناس عداوة لله ولرسوله وللمسلمين ، لا يألون جهدا في تفريق كلمتهم أو إفشاء سرهم أو الطعن في دينهم ، وكان الله تعالى يكشف كيدهم ويظهر خبثهم بين الحين والآخر، وليس حادثة الإفك إلا حلقة من مسلسل إساءاتهم المتلاحقة ومكرهم الكبار .
قال الدكتور أكرم ضياء العمري : وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين ، فلما كسب الإسلام نصرا جديدا ازدادوا غيظا على غيظهم وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشتفي من الغل ، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار ، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته ، فشنوا حربا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها )) [1]، وهي بلا شك حادثة كدرت صفو حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعية ولو لفترة من الزمن يسيرة .
الدرس الثالث : سنة سفر الرجل بنسائه في الغزوة ونحوها .
من فوائد قصة الإفك ودروسها المستفادة مشروعية أخذ المجاهد امرأته للجهاد إذا كانت الظروف مواتية لذلك )) [1]، وذلك كي تنال المرأة فضل الجهاد في سبيل الله ، فالجهاد في سبيل الله ليس مشروعا على الرجال فقط ، ولكن من شاركت فيه من النساء بشروطه نالت الأجر إن شاء الله تعالى ، ولتقوم المرأة بخدمة زوجها وتأنيسها في السفر ، وكذلك تحصين نفسها وزوجها وحفظه من الفتن والمغريات المنتشرة في ديار الكفر .
ويقاس على سفر الجهاد كل سفر واجب أو مستحب كالسفر للحج أو طلب العلم أو العمل في ديار بعيدة عن الوطن والأهل ، فيستحب حينئذ أن يصطحب الإنسان أهله لتحقيق ما ذكر من المقاصد والغايات .
فكم من حوادث الخيانة الزوجية سببها طول غيبة الرجل عن أهله وبعده عنهم ، والسفر يجرئ المرء على كثير من الأفعال والأقوال التي لم تكن لتخطر على باله حالة الإقامة بين الأهل والعشيرة ، والله المستعان .
الدرس الرابع : حرص الصحابة على خدمة أهل البيت وأدبهم معهم .
لم يكن الصحابة رضيَ الله عنهم يفرقون بين النبي صلى الله عليه وسلم و أهله في الحب والتقدير والإجلال ، وذلك لما يعرفون من شرف أهل بيت النبوة وفضلهم ، ولذلك كانوا يحبونهم ويخدمونهم ويتعاملون معهم بأدب وتوقير ، ويعتبرون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتهم بعد أن أنزلهن الله تلك المنزلة ، قال تعالى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [1].
وكانوا يعتقدون حرمة نكاحهن من بعد رسول الله ، وخطورة إيذائهن بقول أو فعل لقوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } [2].
وفي قصة الإفك صورة ناصعة من صور إجلال الصحابة رضيَ الله عنهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمتهن وأدبهم الجم في التعامل معهن نراها في سلوك الصحابي الجليل صفوان بن المعطل مع أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها لما عثر عليها .
قالت عائشة رضيَ الله عنها:وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني )) استرجع لعظمة المصيبة ، أو للتعجب ، وكلاهما وارد في هذا المشهد ، فقد استرجع صفوان لتخلف أم المؤمنين عن موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان ليس فيه أحد ، وليس لها حيلة لدركهم !
لم يتأخر صفوان فقد جاء براحلته لتلحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة :وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول )) ، وهما طول الطريق سكوت لم يتبسطا في الحديث ، لم يسألها أين كانت ولا لماذا تأخرت ، ولا غير ذلك ، ولم تسأله مثل ذلك ، كما قالت عائشة رضيَ الله عنها : و والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه )) ، ولم تر منها شيئا بعد أن ستر وجهها لما سمعت استرجاع صفوان .
وذكر الإمام النووي رحمه الله من فوائد قصة الإفك :حسن الأدب مع الأجنبيات ، لاسيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها ، كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام و سؤال ، وأنه ينبغي أن يمشي قدامها لا بجنبها ولا ورائها )) [3].
وليعتبر بهذا كل مسلم ملتزم بشرع الله تعالى في علاقاته مع نساء أصحابه وأقاربه ، فإن ظروف العمل والحياة العامة في زمننا قد تلجأ إلى بعض الضرورات ، وحينئذ يجب تقدير الضرورة بقدرها فلا يتوسع في المحادثات ، أو يطول في المجالس إلا لحاجة أو ضرورة ، حفظا للقلوب أن تزيغ ، وصيانة للحرمات أن تنتهك ، والشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق .
الدرس الخامس : أهمية الشورى في حل المشكلات الأسرية .
الشورى سنة مؤكدة وسيرة محفوظة ، كان يعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أقدم على عمل أو قول يستجوبها ، ويلجأ إليها فيما أغلق عليه من أمور الحياة ، فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمور الدعوة إلى الله ، وفي مسائل الجهاد في سبيل الله ، وشاورهم في القضايا الأسرية والمشاكل الاجتماعية ، وكل ذلك من العمل بقول الله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [1]، وتعليما لأصحابه وسائر أمته من بعده بمبدأ عظيم من مبادئ إدارة الشأن العام دينيا كان أو دنيويا ، كما هو الواجب على المسلمين في كل زمان ومكان ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [2].
وكان طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في الشورى كلما حزبه أمر أو هجم عليه شأن أن يختار من أصحابه أهل العلم والخبرة ، والألصق بموضوع الشورى و الأعرف بتفاصيله .
ولما انتشرت قصة الإفك بين الناس في المدينة ، وهلك فيها من هلك استشار النبي أصحابه ليستمع إلى آرائهم في الموضوع ، واختار لمشورتهم رجلين وامرأتين من أصحابه المقربين من بيت النبوة الكريمة .
أما الرجلان فهما : أولا : ختنه وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال له : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك )) ، وهو يشير بقوله هذا أن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ويستريح من الشكوك والقيل والقال ، ولكن بلهجة ذكية ، لم يخف كنهها على عائشة رضيَ الله عنها ، ولقد وجدت عائشة من قوله موجدة عظيمة ، ولم ينسها له .
ولأهل العلم تأويل لكلام علي رضي الله عنه ، حيث قالوا : الذي قاله علي هو الصواب في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ، ولم يكن ذلك في نفس الأمر ، لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه ، فأراد راحة خاطره ، وكان ذلك أهم من غيره )) [3]
والرجل الثاني : حبه وابن حبه أسامة بن زيد رضيَ الله عنهما الذي قال له : أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا )) ، وهو بهذا ينصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بأهله ، فإن هذه مجرد شائعة لا غير ، وما يعرفه من طهارة أهله وشرفهم أكبر من أن يتزعزع بسببها .
وأما المرأتان فهما ، الأولى : بريرة مولاة عائشة وصديقتها في البيت وكانت عارفة بها ، وقالت لرسول الله لما سألها : والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله )) ، فأكدت لرسول الله أن زوجها من المحصنات الغافلات البريئات مما رمين بها من الفاحشة .
والثانية هي : زينب بنت جحش رضيَ الله عنها إحدى أمهات المؤمنين ، وهي من كانت تسامي عائشة رضيَ الله عنها عند رسول الله ، وغالبا ما يحمل الحسد مثلها على الظلم والشهادة بالزور ، ولكنها رضيَ الله عنها كانت أورع وأعف لسانا من أن تفتري على أختها ما ليس لها به علم .
وبعد أن استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مستشاريه وتأمل في أقوالهم وشهاداتهم عزم أمره وتوكل على الله واتخذ موفقه الشخصي في هذا الأمر الخطير ، ألا وهو اعتقاد براءة أهله من كل ما رمي بها من الفاحشة ، إذ ليس عند الخائضين في الإفك بينة تثبت دعواهم الكاذبة ، ولا قرينة تدل على تلبث المتهمين بشيء من التهمة ، وليس في سيرتهما ما يقدح في عدالتهما ، أما عائشة فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما علمت على أهلي إلا خيرا )) ، وأما صفوان فشهد له بمثل ذلك فقال : ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلا معي )) .
لم تكن الشورى في حادثة الإفك من حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، بل كانت عائشة رضيَ الله عنها في أمس الحاجة إلى من تستمع إليه وتأخذ برأيه في مصيبتها ، ولم يكن ذلك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ما أحست به عائشة من نوع تغير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله معها ، لحد الامتناع من ذكر اسمها ونداءها بقوله صلى الله عليه و سلم تيكم ) ، ولما كان الأمر بهذه الوتيرة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذهب إلى أبويها لتستوثق منهما وتستشيرهما فيما تأتي أو تذر ، وكان أقربهما إليها أمها التي حاولت أن تخفف عنها وتلهيها قليلا بإرجاع الأمر إلى أسبابها الطبيعية فقالت لها : يا بنية هوني عليك ، فوالله قل ما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها )) ، وهذا الكلام وإن صدر من قلب حنون لم يكن لها في نفس عائشة كبير أثر ، فاستمرت في بكائها وأرقها .
الدرس السادس : خوض بعض الصالحين في الشائعات .
بعض أهل الصلاح قد يقعون ضحايا الشائعات المنتشرة في المجتمع ، وذلك لاستعجالهم وغفلتهم عن المنهاج الشرعي في التعامل مع الأخبار ، فيصدقون الأكاذيب المروجة ، ويصيبون أقواما في أديانهم وأعراضهم بغير حق كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [1].
وممن خاض من الصحابة في الإفك مع الخائضين حسان بن ثابت و مسطح بن أثاثة ، و حمنة بنت جحش رضيَ الله عنهم أجمعين ، حدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلدهم ثمانين جلدة ، قال ابن القيم رحمه الله : ولما جاء الوحي ببراءة عائشة رضيَ الله عنها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح في الإفك فحدوا ثمانين ثمانين ... )) [2].
أما الذي تولى كبر الفرية العظيمة والإفك المبين فهو عبد الله بن أبي بن سلول ، وبذلك تظاهرت الروايات عن عائشة رضيَ الله عنها وهي صاحبة القصة ، فقد بوب البخاري بقوله : باب قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [3] ثم ساق بسنده : حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضيَ الله عنها { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ } قالت : عبد الله بن أبي سلول ، وعنده أيضا من رواية صالح بن كيسان عن الزهري : وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول )) [4].
وأما ذكر بعض الروايات لحمنة وحسان ومسطح مع عبد الله بن أبي بن سلول فيفسر ذلك على أنهم من باب التبعية ، لا أنهم تولوا كبر الإفك أصالة ، وإنما الذي تولاه هو ابن أبي بن سلول المنافق ، لكنهم حين قالوا بقالته ذكروا معه تبعا ... )) [5].
وكان موقف هؤلاء الثلاثة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم استثناء من حال غيرهم من أهل الإيمان الذين ذكر الله موقفهم من الإفك في قوله : { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } [6].
الدرس السابع : عفة لسان أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها وسلامة قلبها .
من أعظم ما يلفت نظر المتتبع لتفاصيل قصة الإفك ، عفة لسان أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها وسلامة قلبها للمسلمين ، فهي في حكايتها لما عانته من قصة الإفك لم تسب أحدا من الخائضين فيها ولم تدع على أحد ، ولم تنس لذي فضل سابق فضله .
فلم تكن تتجاوز في وصف الخائضين في الإفك على قولها هلك من هلك )) كما قالت عن عبد الله بن أبي بن سلول وغيره .
ولما ذكرت موقف حمنة بينت دافعها الأساس ومورطها الأول وهو منزلة أختها زينب بنت جحش التي كانت أفضل منها حالا ، حيث حفظها الورع من الخوض في الإفك وشهادة الزور .
ولما أرادت أم رومان أن توسع دائرة الاتهامات لتشمل أمهات المؤمنين اللائي لم يؤثر عنهن في الحادثة شيء أعرضت عنها عائشة ولم تعلق على كلامها لمعرفتها بحالهن ، بل لجأت مرة أخرى إلى البكاء .
وإذا كان هناك من موقف سلبي لها يذكر ، فهو الذي كان لها من علي الذي أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ، ومع ذلك فقد روي عنها قولها في وصف موقف علي رضيَ الله عنهما إن عليا أساء في شأني ، والله يغفر له )) [1].
الدرس الثامن : موقف أبي بكر وأهله من حادثة الإفك والخائضين فيها .
من أهم مواقف المسلمين من حادثة الإفك موقف أبوي عائشة رضيَ الله عنهم ، أبي بكر الصديق وزوجه أم رومان ، فلقد كانا متحلين بالهدوء وضبط النفس في التعامل مع مصيبة ابنتهما الصغيرة ، فقد سمعنا قبل قليل كلام أم رومان في مشورتها لعائشة وهي لم تتجاوز أن حاولت شرح أسباب المشكلة وبيان أبعادها الاجتماعية ، ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ليكلم عائشة ، فطلب من أبويها أن يجيبا رسول الله هاباه ولم يجدا ما يقولانه .
وأما التعامل مع أطراف القضية الآخرين فقد ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه تحيزا واضحا إلى ابنته وزوج صديقه وحبيبه صلى الله عليه وسلم ، فقد غضب على مسطح وأقسم أن يقطع عنه نفقة كان يؤديها له ، لوما نزل قوله تعالى : {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [1]، فرجع عن قوله و عفا عن مسطح وأعاد له النفقة .
فيا له من مواقف متزنة وحكيمة من أبوي عائشة رضيَ الله عنهم ، ففيها دروس بليغة للآباء في تعاملهم مع أصهارهم ليعرفوا أن المشاكل الأسرية لا تحل بالكبرياء والعصبية ، ولا بالاتهامات المتبادلة ، بل بحسن النوايا والاحترام المتبادل ، والتأني وعدم العجلة .
الدرس التاسع : براءة عائشة رضيَ الله عنها :
المحصلة النهائية في قصة الإفك المؤلمة هي طهارة أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها وبرائتها مما رمي بها من الفاحشة ، وقد دل على برائتها الكتاب والسنة والإجماع .
أما دلالة الكتاب على برائتها فهي من أوجه منها :
الوجه الأول : تسمية الحادثة إفكا:
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } [1] والإفك أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل ، تقول العرب : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } [2]وقوله {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [3]وإنما قيل لها مؤتفكات لأن الملك أفكها أي قلبها ... ) [4]، وفي تسمية الحادث بالإفك تكذيب صريح لمختلقيه ، وبيان لقلبهم الحقائق عن وجهها حيث وصفوا الطاهرة المطهرة بالفاحشة والمنكر .
الوجه الثاني : وصفها بأنها بهتان عظيم:
قال تعالى : {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [5]، قال أبو إسحاق : البهتان الباطل الذي يتحير من بطلانه ، وهو من البهت : التحير ، والألف والنون زائدتان )) [6]، ولا شك أن حادثة الإفك حير أولي الألباب وأعقل العقلاء لغرابتها ولبعد وقوعها ، ولكن الخبيث ابن أبي حاول أن يروجها بين الناس قليلا قليلا حتى صدقه بعض الناس ومنهم بعض الصالحين ، وذلك لتفننه في نسج الأباطيل واختلاق الأكاذيب ، دأب المنافقين في كل زمان ومكان .
أما دلالة السنة على براءة عائشة فمن أوجه منها :
الوجه الأول : تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة عائشة .
فكان أول كلمة قالها رسول الله لما نزل عليه الوحي وهو في بيت أبي بكر رضي الله عنه : يا عائشة أما الله فقد برأك )) ، وكان قبل ذلك زكاها في ملأ من أصحابه بقوله : والله ما علمت على أهلي إلا خيرا )) ، وكل ذلك من شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على براءة أهله ، وكفى به شاهدا .
الوجه الثاني : إقامة حد القذف على الخائضين في حادثة الإفك .
لما نزل القرآن ببراءة عائشة أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان و حمنة ، عملا بقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [7].