مشكلة الطعن في عرض أهله صلى الله عليه وسلم .
إن من أصعب الأمور على الرجل أن ينال من عرض أهله ويرمين بالفاحشة ، والرجل كالمرأة يغار على زوجه و بناته وجميع أهله ، ويحرص على ما يصون كرامتهن ، وقل من الرجال من يملك صوابه من الرجال إذا حدث في بيته من المشكلات ما يتعلق بالشرف والعرض ، عن وارد كاتب المغيرة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني )) [1].
فقد وصف نفسه بالغيرة الشديدة على محارمه صلى الله عليه وسلم ، ولكنه كان معتدل السيرة وحسن الطريقة في التعامل مع قضايا الشرف والعرض ، ولما ابتلي في أحب نسائه إليه أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها في حادثة الإفك تصرف بكامل الحكمة والروية رغم تأثره البالغ وتألمه الشديد بهذه الفرية العظيمة ، فقدم للأزواج من بعده دروسا في أخلاقيات التعامل الأسري ما لا يجدونه أبدا في سيرة أي مصلح قبله أو بعده .
قصة الإفك دروس وعبر :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معها ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب ، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت ألتمس عقدي فحبسني ابتغائه .
قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه ، وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ، ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج ، حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل فساروا ، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت به ، وظننت أنهم سيفقدوني ويرجعون إلي ، فبينا أنا جالس في منزلي غلبتني عيني فنمت .
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، و والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول .
قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول .
قال عروة : أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه ، وقال عروة أيضا : لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، و حمنة بنت جحش ، في ناس آخرين لا علم لي بهن ، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى ، وإن كبر ذلك يقال له عبد الله بن أبي بن سلول ، قال عروة : كان عائشة تكره أن يسب عندها حسان ، وتقول إنه الذي قال :
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منهم وقاء .
قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ، لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يربني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت .
فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع – وكان متبرزنا – وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، قالت : وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .
قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ! فقلت لها : بئس ما قلت ! أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه ، ولم تسمعي ما قال ؟ قالت : وقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك .
قالت : فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما .
قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك ، فوالله قل ما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها ، قالت : فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع و لم أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .
قالت : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .
قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلا معي )) قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : فقام رجل من الخزرج ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت : فبكيت يومي ذلك كله ، لا يرقأ لي دمع و لم أكتحل بنوم ، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي ، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت له ، فجلست معي تبكي ، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه ، قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله عني فيما قال ، فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، قالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت : لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم ، وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني حينئذ بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ثم تحولت واضطجعت على فراشي ، والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة أما الله فقد برأك )) ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل ، قالت : ثم أنزل الله هذا في براءتي .
قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، بعد الذي قال لعائشة ما قال )) ، فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ } إلى قوله { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [2]، قال أبو بكر : بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي )) ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا )) .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقالت لزينب : ما ذا علمت أو رأيت ؟ )) فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك ) [3].
تلك هي قصة الإفك الأليمة بجميع فصولها المحزنة ، على لسان ضحيتها البريئة في تصوير أدبي بليغ وأمانة في النقل قل أن يرى مثلها فيمن يتحدث عن ظلم وقع عليه .
والقرآن الكريم تناول قصة الإفك أيضا بطريقته المميزة في القصص ، آتيا على أهم الفصول ، ومركزا على مواضع العظة والاعتبار ، ومعلما بالقضايا والأحكام ، وذلك في سورة النور من الآية 11 إلى 27 .