مقدمة
نشأ عمر في كنف والده وورث عنه طباعه الصارمة، التي لا تعرف الوهن، والحزم الذي لا يدانيه التردد، والتصميم الذي لا يقبل أنصاف الحلول.
وكان رضي الله عنه من أشراف قريش وأعيانها، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فكانت قريش إذا وقعت الحرب بينهم، أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرًا ـ أي رسولًا ـ وإذا نافرهم منافر، وفاخرهم أحد رضوا به، وبعثوه.
ونال السفارة؛ لأنه رجل قوي البنيان، مجدول اللحم، رابط الجأش، ثابت الجنان، صارم حازم، لا يعرف التردد والأَرْجحة، ينأى عن الذبذبة والمراوغة، لا تتناوبه الأهواء المتنازعة، ولا الآراء المشتتة، بل نفسه كُلٌّ واحد، إذا تحرك تحركت كل قدراته، واحتشدت في شخصية واحدة متكاملة متسقة، فحيثما وجد عمر رضي الله عنه وجدت شخصية وإدارة ومنهج، في دقة واتساق، كأنه جيش يتحرك بخطى قوية إلى اتجاه واحد محدد، بشخصية فذة ليس لذرة في كيانه عن إرادته شذوذ، أو عن وجهته مهرب.
كان عمر رضي الله عنه صافي النفس صفاء سماء مكة، واضح السريرة من غير تعرج، ولا انحناءات وضوح الصحراء التي ترعرع فيها، راسخ العزيمة رسوخ الجبال الرواسي، التي رعى الأغنام بين جنباتها، متلالئ الصفات كالكوكب الدريّ في كبد السماء.
فكان من كل ذلك هذا الرجل الشامخ العملاق، الصارم الحازم، الصلب الصلد، الواضح وضوح الشمس، الذي إن رأيته قرأت دخيلة نفسه، وقد ارتسمت على ملامح وجهه، لا مخبوء فيها ولا مستور.
ولقد أصابت قريش في اختيارها، وما اختارته إلا عن ابتلاء منها واختبار، ليكون لها سفيرًا ومنافرًا ومفاخرًا ومكاثرًا.
هذا العنفوان العارم، والبأس الشديد، قد جنده عمر في محاداة دعوة الحق سبحانه وتعالى، عندما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس على بصيرة للتوحيد، ونبذ الأصنام.
كان عمر رضي الله عنه قبل إسلامه في الصف المعادي للإسلام، وقد أفرغ كل قوته في بحر الشرك المتلاطم حول الدعوة الجديدة، وكان متشبثًا بموقفه لدرجة تعصف بأي أمل في إسلامه وأن يكون يومًا مع الركب المؤمن، ولقد كان أذاه للمسلمين يبلغ أذى قريش مجتمعة، ولم يسلم منه حتى أخته وصهره سعيد بن زيد.
ومع كل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمع في إسلامه، لما يعلمه فيه من القوة التي اتسمت بالوضوح والتفوق الباهر، الذي جند في غير طريق الحق.
لقد كان طغيان الوثنية وعرامة الشرك، والتمسك بما آل عليه الآباء من عقائد وموقف كبراء قريش وزعمائها وعدائهم للدعوة، كل ذلك لم يكن ليترك عمر يسلم بيسر وسهولة بل لا بد للقلب الشديد، والقوة الهادرة من صوت مجلجل، ومنطق قاهر باهر، يقرع سمع عمر وفؤاده ليفتحه فتحًا قويًا.
قصة إسلامه تدل على قوة حزمه
ورد في سبب إسلام عمر رضي الله عنه الكثير من الروايات ولكن بالنظر في أسانيدها من الناحية الحديثية نجد أن الكثير منها لا يصح.
ويروى في إسلام عمر رضي الله عنه أن قريشًا قد اجتمعت، فتشاروت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أي رجل يقتل محمدًا؟ فقال عمر بن الخطاب أنا لها. فقالوا: أنت لها يا عمر. فخرج في الهاجرة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكروا له أنهم يجتمعون في دار الأرقم في أسفل الصفا فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد هنا الصابئ الذي مزق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله. قال له نعيم: لبئس الممشى مشيك يا عمر، ولقد والله غرتك نفسك، ففرطت، وأردت هلكة بني عدي، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدًا؟ فتحاورا حتى علت أصواتهما، فقال عمر: إني لأظنك قد صبوت، ولو أعلم ذلك لبدأت بك، فلما رأى نعيم أنه غير مُنتهٍ قال: إني أخبرك أن أهلك وأهل ختنك قد أسلموا وتركوك، وما أنت عليه من ضلالك. فلما سمع مقالته قال: وأيهم. قال: ختنك وابن عمك وأختك. ويذهب الفاروق لبيت أخته ويطرق الباب.
فلما دخل قال: ما هذه الهيمنة التي سمعت. قالا له ما سمعت شيئًا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه فاطمة تدافع عن زوجها فضربها فشجها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم. قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. وهنا تقرع كلمة الحق الصادقة من أخته وزوجها قلب عمر في أوج بأسه فتمزق ما عليه من غشاوة، فيلين ويخشع، وفي هذه اللحظة تبرز طبيعة عمر التي تميز بها عن الأشداء من قريش ـ كأبي جهل وأضرابه ـ الذين استبان لهم الحق، فكابروا وعاندوا، وحادوا الله ورسوله، لقد كانت قوة عمر قوة تَفوّق، لا قوة طيش وتهور، فما أن قرعت قلبه كلمات الصدق، وجلجلت في فؤاده مدوية، نهض كالبرق الخاطف من فوق صدر سعيد بن زيد زوج أخته، وندم على ما صنع وارعوى، وتضرع إلى أخته فقال: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتبًا.
فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.
قال: لا تخافي. وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها.
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وقرأ: [ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) ] {طه: 1: 5}.
ويتابع عمر القراءة بقلب واجف، ويتلو بخشوع وتبتل: حتى يصل إلى قوله تعالى: [إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] {طه: 14}.
فقال الفاروق: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، دلوني على محمد. قال عمر رضي الله عنه: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.
وذهب عمر رضي الله عنه إلى جبل الصفا حيث يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته.
وهناك ينطق عمر رضي الله عنه بالشهادتين، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أسلم.
من أول يوم في إسلامه وهو حازم
دخل عمر الإسلام بإخلاص متناه، وعمل على تأييد الإسلام بكل ما أُوتي من قوة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم.
قال ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن وكان الرسول صلى الله عليه وسلم- على ما يبدوـ قد رأى أنه قد آن الآوان للإعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن تدافع عن نفسها، فأذن بالإعلان، وخرج صلى الله عليه وسلم في صفين، عمر في أحدهما، وحمزة على الآخر، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخل المسجد فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.
لقد أعز الله الإسلام والمسلمين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان رجلًا ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، وامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة.
وتحدى الفاروق رضي الله عنه المشركين، فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر رضي الله عنه على مواجهة أعداء الدعوة بكل ما يملك.
ومن فضائل الفاروق عمر رضي الله عنه التي اتصف بها، ويجدر بنا التحلي بها: عدم محبة الباطل، يروي الإمام أحمد بسنده عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ حَمِدْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَحَامِدَ وَمِدَحٍ وَإِيَّاكَ. قَالَ: هَاتِ مَا حَمِدْتَ بِهِ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنْشِدُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَدْلَمُ فَاسْتَأْذَنَ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيِّنْ، بَيِّنْ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنْشِدُهُ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَأْذَنَ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيِّنْ، بَيِّنْ. فَفَعَلَ ذَاكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الَّذِي اسْتَنْصَتَّنِي لَهُ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ.
(حديث رقم – 15033) وقد سبق تخريجه
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله:
الاستدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم منه رخصة وإباحة لاستماع المحامد والمدائح، فقد كان نشيده، والثناء على ربه عز وجل، والمدح لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإخباره صلى الله عليه وسلم أن عمر رضي الله عنه لا يحب الباطل أي أن من اتخذ التمدح حرفة واكتسابًا، فيحمله الطمع في الممدوحين على أن يهيم في الأودية، ويشين بفريته المحافل والأندية.
فيمدح من لا يستحقه، ويضع من شأن من لا يستوجبه إذا حرمه نائله، فيكون رافعًا لمن وضعه الله عز وجل لطمعه، أو واضعًا لمن رفعه اله عز وجل لغضبه. فهذا الاكتساب، والاحتراف باطل، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يحب الباطل.
وقال العلامة ابن الأثير: أراد بالباطل صناعة الشعر، واتخاذه كسبًا بالمدح والذم، فأما ما كان ينشده النبي صلى الله عليه وسلم فليس من ذلك ولكنه خاف ألا يفرق بينه وبين سائره، فأعلمه ذلك.
تسميته الفاروق
عُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالفاروق فما معنى ذلك اللقب؟
الفاروق: ما فرّق بين شيئين، ورجل فاروق، يفرق بين الحق والباطل.
وقيل: لأن الله جعل الحق على لسانه.
وقيل: إنه أظهر الإسلام بمكة ففرق بين الكفر والإيمان.
وقد اختلف السلف فيمن سَمَّاه بذلك، فقال بعضهم: سماه بذلك أهل الكتاب، وقد روى ذلك الزهري بلاغًا ولا يصح.
ويقول أبو نعيم في حلية الأولياء.
وخرج صلى الله عليه وسلم في صفين، عمر في أحدهما، وحمزة على الآخر، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخل المسجد فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.
حازم في حكمه
يقول سويد بن غفلة رحمه الله: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب وهو بالشام يستعدي على عوف بن مالك الأشجعي أنه ضربه وشجه، فسأل عمر عوفًا عن ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع، ثم دفعها فجرت عن الحمار، ثم تغشاها، ففعلت ما ترى.
فذهب إليها عوف، وأخبرها بما قال لعمر، فذهبت لتجئ معه، فانطلق أبوها وزوجها فأخبروا عمر بذلك.
قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فأمر به فصلب، ثم قال: يا أيها الناس: فُوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن فعل منهم هذا، فلا ذمة له.
وفي رواية عوف بن مالك رضي الله عنه قال: إن رجلًا يهوديًا أو نصرانيًا نخس بامرأة مسلمة ثم حثا عليها التراب، يريدها على نفسها، فرُفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن لهولاء عهدًا ما وَفُّوا لكم بعهودهم، فإذا لم يفوا لكم بعهدكم فلا عهد لهم. قال: فصلبه عمر.
فالأمن والأمان لمن أوفى بالعهود والمواثيق، وضرب الرقاب لمن خان العهد، وغدر بما عليه أخذ العهد والذمة.
هذا الأدب الفريد، وتلك الأخلاق السامية في مجال القتال هي ما تعلمه الفاروق من دينه القويم، وما اتصف به من أخلاق النبي الأُمي صلى الله عليه وسلم، وتلك المكارم مجتمعة هي سمات الإمام الرباني المحب للجهاد في سبيل الله، وابتغاء ثوابه.
فما أحوج أهل الإسلام اليوم قادة كانوا أو جنودًا إلى تلك المثل الجهادية الرائعة، التي تظهر صورة سامية من صور الإسلام الشامخ.
يروي عاصم بن عمر فيقول: إن عمر رضي الله عنه قدم عليه مال، فأمر به إلى بيت المال، فجئت وأنا غليّم وعليّ أزير فوجدت درهمًا فأخذته، فقال لي: من أين هذا الدرهم لك يا عاصم؟
قلت: أعطتنيه أمي، فأرسل إلى أمه: أعطيت عاصمًا درهمًا؟
قالت: لا. قال: أخبرني خبره؟
قلت: وجدته في الحجر- أو قال في الفناء- فأخذه مني، ودفعه إلى رجل وقال: اذهب به فألقه بين الخوخة والباب.
عزل الولاة
لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار الولاة فحسب، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم، ليطمئن على حسن سيرتهم، ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خير لي أن أعزل كل يوم واليًا من أن أُبْقي ظالمًا ساعة نهار.
وكان من حزم عمر رضي الله عنه مع ولاته أنه كان يطلب منهم أشياء عن طريقها يضبط أمورهم.
مواقف أخرى من حزم الفاروق رضي الله عنه
(جاء في صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله: سواء عليهم أستغفرت لهم... حديث 4905) حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ- قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ- فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
ومشهد آخر
في موقف حاطب بن أبي بلتعة عندما أرسل إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم- كما في (البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء... حديث 4890)-
: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
وفي (أسد الغابة جزء 1- صفحة 1251)
عَنْ أَبِي الْمُنْذِرِ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا هَلَكَ فَصَلِّ عَلَيْهِ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ فَاجِرٌ فَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسَولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ اللَّيْلَةَ الَّتِي صِحْتَ فِيهَا فِي الْحَرَسِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ تَبِعَهُ حَتَّى جَاءَ قَبْرَهُ فَقَعَدَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُ حَثَا عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَقَالَ: مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. أخرجه أبو نعيم وأبو موسى.
وفي أعقاب غزوة بدر جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه يريد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من أصحابه يتحدثون عن بدر، ويذاكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، هو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، حضر عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحًا سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بجمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر. ادن يا عمير. فدنا ثم قال: انعموا صباحًا- وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا إليه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئًا. قال: اصدقني، ما الذي جئت به له. قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْن عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني به، والله حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك لرسول الله.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دِينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا.
ومن هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب، وحذر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروفًا لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرص على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في الأخذ بالأسباب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر نفرًا من الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كلامه رضي الله عنه ما يدل على حزمه:
(الطبقات الكبرى جزء 8- صفحة 182)
وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار، فصحت على امرأتي، فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني ذلك، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن. ثم جمعت عليّ ثيابي، فنزلت فدخلت على حفصة بنت عمر، فقلت: يا حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله يوما إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فيهلكك؟ لا تستكثري على رسول الله، ولا تراجعينه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله.