مقدمة
قبل الدخول في أحداث معركة الجمل نتناول بعض الشبهات والأسئلة ونرد عليها...
الشبهة: مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم تكن مبايعة شرعية، ومن ثَم يحق لمعاوية رضي الله عنه ألا يبايع عليًا رضي الله عنه، خاصة أن من بايعه إنما هم أهل الفتنة، ومبايعتهم غير شرعية وغير جائزة.
الرد: معظم الناس، وخاصة كبار الصحابة، وهم أهل الحل، والعقد، هم الذين بايعوا عليًا رضي الله عنه، ومنهم أيضًا طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضي الله عنه اللذين كانا يطالبان بدم عثمان، أولًا قد بايعا، وبايع أيضًا أهل الفتنة، ومبايعتهم في هذا الإطار لا تقدم، ولا تؤخر بعد مبايعة أهل الحل والعقد من الصحابة، ولكن ما حدث أن الرؤى توافقت في هذا التوقيت، فقد كان أهل الفتنة يريدون تولية علي رضي الله عنه، وكان يريد ذلك أيضًا جميع أهل المدينة، ولم يعترض أحد على تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لم يكن يعترض مطلقًا على تولية علي رضي الله عنه، ولكن كان الاختلاف في ترتيب الأولويات؛ فمعاوية رضي الله عنه يريد القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه يريد استقرار الدولة أولًا، ثم يرى رأيه في أهل الفتنة، ويقتل منهم من يستحق القتل، ويعزر من يستحق التعزير بعد أن تقوى شوكة المسلمين، وتزول الفتن القائمة.
الكل إذن على اتفاق على تولية علي رضي الله عنه، ونذكر في هذا الإطار أن عليًا رضي الله عنه كان مرشحًا للخلافة مع عثمان رضي الله عنه، ولم يعدل أهل المدينة به، وبعثمان رضي الله عنهما أحدًا، ولكن كان هناك إجماع على تولية عثمان رضي الله عنه في ذلك التوقيت، فمن الطبيعي أن يتولّى علي رضي الله عنه الإمارة بعد عثمان رضي الله عنه، خاصة بعد أن أجمع أهل الحل والعقد على توليته.
سؤال: كيف يتم اختيار أهل الحل والعقد؟
الإجابة: أهل الحل والعقد في هذه الفترة كانوا هم كبار الصحابة من المهاجرين، والأنصار، وأهل بدر، وكان هؤلاء هم أهل الحل والعقد منذ عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وحتى هذا الوقت، وقت خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان يتجمع هؤلاء جميعًا رضي الله عنهم، ويأخذون القرارات المهمة التي لا يستطيع الوالي أن يأخذ فيها قرارًا بذاته، وبالأولى إذا لم يكن هناك والٍ، ويراد تولية أحد ليكون واليًا على أمر الأمة.
سؤال: لماذا لم يشترك علي ومعاوية رضي الله عنهما في قتل القتلة أولًا، ثم يتم بعد ذلك اختيار الخليفة، ومبايعته؟
الإجابة: اختيار الخليفة ومبايعته أهمّ بكثير من قتل قتلة عثمان رضي الله عنه، وذلك لأن البلاد لا تسير دون خليفة، أو أمير، فكيف يتم قتل هؤلاء القتلة ومن المتوقع حدوث حربٍ ضارية وكبيرة على مستوى الدولة الإسلامية كلها؟
ورأينا كيف قُتل ستمائة من المسلمين في البصرة وحدها، فكيف لو كان الأمر في غيرها من البلاد أيضًا؟
ثم إنه إذا حدثت الحرب، وحدث القتال مع أهل الفتنة، فمن بيده أن يصدر قرارًا باستمرار الحرب أو وقفها، هل هو علي بن أبي طالب أم معاوية أم السيدة عائشة أم طلحة أم الزبير رضي الله عنهم جميعًا؟
ثم إذا حدث أن دولة معادية للدولة الإسلامية استغلت نشوب القتال بين المسلمين وأهل الفتنة في الداخل، وهاجموا الدولة الإسلامية، فمن بيده القرار حينئذٍ؟
وهل يتم وقف الحرب مع أهل الفتنة، وقتال المهاجمين من الخارج، أم يقاتلوا في الجبهتين داخليًا وخارجيًا؟
ومن الذي يستطيع أن يأخذ هذا القرار ولا يوجد خليفة للمسلمين؟
لا شكّ أن الأمر سيكون في منتهى الخطورة، ثم إنه عند تعارض مصلحتين تُقدم الأكثر أهمية فيهما، وتُؤخر الأخرى لوقتها، وإذا تحتّم حدوث أحد الضررين تمّ العمل بأخفهما ضررًا تفاديًا لأعظمهما.
وفي تلك الفترة حدث أمرٌ عظيم كان من الممكن أن يودي بالدولة الإسلامية كلها ولكن الله سلّم.
رأى قسطنطين ملك الدولة الرومانية ما عليه حال الدولة الإسلامية بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجمع السفن وأتى من البحر متوجهًا إلى الشام للهجوم على الدولة الإسلامية، وبينما هو في الطريق إلى المسلمين، وكانت الهلكة محققة للمسلمين إن وصل إليهم نظرًا لما هم عليه من الفتن والحروب بينهم وبين بعضهم، ولكن الله تعالى بفضله ومنّه وكرمه أرسل على تلك السفن قاصفًا من الريح، فغرق أكثر هذه السفن قبل الوصول إلى الشام، وعاد من نجا منهم، ومعهم قسطنطين إلى صقلية، واجتمع عليه الأعوان، والأمراء، والوزراء، وقالوا له: أنت قتلتَ جيوشَنا. فقتلوه.
وعلى فرض أن قسطنطين هذا نجح في الوصول إلى الشواطئ الشمالية للشام، فمن يستطيع أن يجمّع الجيوش لمحاربة هؤلاء الرومان، وأي جيوشٍ يجمعها، ففي كل بلد أمير، ولكل بلد جيشها، فمبايعة الخليفة إذن كانت أمرًا من الضرورة بمكان.
وإذا نظرنا إلى المدة التي كانت فيها الشورى لاختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن المسلمون في تلك المدّة القصيرة دون أمير، بل كان أميرهم في هذه الثلاثة أيام هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فلا يصح بحال أن يمر على المسلمين يوم واحد دون أن يكون عليهم أمير، ولما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قد خلعت ما في رقبتي في رقبة عثمان.
بل إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختاروا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما مات الصديق رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، بايع المسلمون في الفجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فالأمر عظيم، وجلل، ولا يصح تأجيله بحال من الأحوال، وكان من الواجب على الجميع أن يبايعوا الخليفة الذي اختاره أهل الحل والعقد، واختاره أهل المدينة والكثرة الغالبة من أهل الأمصار، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
سؤال: من الذي استخلفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المدينة عندما توجه إلى الكوفة؟
الإجابة: استخلف رضي الله عنه قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو ابن أخيه، ولم يستخلف أحدًا من أهل الفتنة، بل أخذهم معه في الجيش، وأَخْذِهِ لهم معه في الجيش ضرورة اضطر إليها، وهو رضي الله عنه أكثر الناس كراهية لهم، ولما سمع رضي الله عنه أن جيش السيدة عائشة يدعون: اللهم العن قتلة عثمان.
قال رضي الله عنه: اللهم العن قتلة عثمان.
ولم يأخذهم معه حبًا فيهم أو مساندة لهم.
قصة ماء الحوأب ونباح الكلاب
ذكروا أن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ومن معها مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان؟
قالوا: الحوأب.
فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظنني إلا راجعة.
قالوا: ولم؟
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب.
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
يقول ابن العربي في العواصم من القواصم أن هذه الرواية لا أصل لها، ولم ترد، وأنها غير صحيحة.
لكن البعض صحح هذا الحديث، والشيعة في كتبهم، وكذلك بعض الكتّاب من السنة الذين ينقلون دون تمحيص، أو تدقيق يذكرون هذه القصة في كتبهم ويعلّقون عليها بقولهم: إن السيدة عائشة لما عزمت على العودة لشكها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عناها بأنها هي التي ستنبحها كلاب الحوأب، وأنها بذلك تفرّق كلمة المسلمين يقولون أن طلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الله بن الزبير اجتمعوا على السيدة عائشة، وأقسموا لها أن هذا المكان ليس ماء الحوأب، وأتوا بخمسين رجل شهدوا على ذلك، فيقول المسعودي وهو من كبار علماء الشيعة في كتابه (مروج الذهب) عن هذه الشهادة: فكانت أول شهادة زور في الإسلام.
وهذا الحديث كما ذكرنا ليس له أصل، وإن صح فليست السيدة عائشة رضي الله عنها هي المعنيّة بهذا القول، وإنما قالت ذلك- إن كانت قد قالته- تقوى وخشية أن تكون هي المقصودة بهذا الكلام، وأن عبد الله الزبير بن العوام قد قال لها أنها ما خرجت إلا للصلح بين المسلمين، وأن هذا لا ينطبق عليها مطلقًا، وتُذكر رواية أخرى، وهي مشكوك في صحتها أيضًا تقول:
إن إحدى الجاريات كانت موجودة مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم حين وجّه إليهن هذا الكلام، وأن هذه الجارية ارتدت، وقتلت على يد خالد بن الوليد في حروب الردة، وهي المقصودة في الحديث.
ولو صحت الرواية الأولى لكان من المستحيل على السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن تكون قد علمت، وتيقنت أنها صاحبة هذا الأمر، واستمرّت فيه، ومن المستحيل على الصحابة الأخيار الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم جميعًا، من المستحيل أن يكونوا قد شهدوا زورًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد لهم بالجنة.
رءوس الفتنة يدبرون ويخططون
بعد أن أوشك الطرفان أن يصلا إلى موقف موحد بعد حديث القعقاع مع السيدة عائشة وطلحة والزبير وبعد أن ذهب علي رضي الله عنه بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها، وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمدٍ بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة.
في هذا الوقت أشار بعض الناس على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام رضي الله عنهما أن الفرصة سانحة لقتل قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك لأن عليًا رضي الله عنه عندما توجه للصلح مع القوم قال:
لا يصحبنا أحدًا شارك، أو أعان على قتل عثمان بن عفان.
فانسلخ من قتل، ومن شارك، وتقدم بقية الجيش للبصرة، فأصبح أهل الفتنة بعزلة عن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرفض طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقالا: إن عليًا أمر بالتسكين.
فمن الواضح أن لديهم قناعة تامة بالصلح والأخذ برأي علي رضي الله عنه.
واجتمع قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتشاوروا في الأمر، فقال بعضهم: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان.
فهم يريدون هنا قتل علي رضي الله عنه أيضًا، وهذا مما يدل بشكل قاطع أن عليًا رضي الله عنه لم يكن له أي تعاون مع هؤلاء القتلة، فها هم يريدون قتله، حتى تظل الفتنة دائرة.
فقام عبد الله بن سبأ وقال: لو قتلتموه لاجتمعوا عليكم فقتلوكم.
وهذه الفئة كما نرى إنما هم أهل فتنة، ويطلبون الحياة الدنيا، أما جنود علي رضي الله عنه، ومن مع السيدة عائشة رضي الله عنه، إنما يريدون الآخرة، وإرضاء الله تعالى، والجنة، ويظنون أنهم على الحق، ويجاهدون في سبيل الله، ويحتسبون أنفسهم شهداء في سبيل الله إن قتلوا في ميدان الحرب.
فقال أحد الناس: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها.
أي يرجع كلٌ إلى قبيلته، ويحتمي بها، فرفض عبد الله بن سبأ هذا الرأي أيضًا وقال: لو تمكّن علي بن أبي طالب من الأمور لجمعكم بعد ذلك من كل الأمصار وقتلكم.
وكان عبد الله بن سبأ معهم كالشيطان يرتّب لهم الأمور حتى يتم اختيار الرأي الصائب من وجهة نظرهم.
فأشار على مَنْ معه مِنْ أهل الفتنة في تلك الليلة التي كان المسلمون سيعقدون الصلح في صبيحتها أن تتوجه فئة منهم إلى جيش الكوفة، وفئة أخرى إلى جيش البصرة، وتبدأ كل فئة منهما في القتل في الناس، وهم نيام، ثم يصيح من ذهبوا إلى جيش الكوفة ويقولون:
هجم علينا جيش البصرة.
ويصيح من ذهب إلى جيش البصرة ويقولون: هجم علينا جيش الكوفة.
وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، وقتلوا مجموعة كبيرة من الفريقين، وصاحوا، وصرخوا أن كل من الفريقين البصرة، والكوفة قد هجم على الآخر، وفزع الناس من نومهم إلى سيوفهم وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه من وجوب الصلح، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت من الأمر في ظلام الليل وقد عملت السيوف فيهم، وكثر القتل، والجراح، فكان هَمّ كل فريق هو الدفاع عن نفسه [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا] {الأحزاب:38}.
وكان أبو سلام الدالاني قد قام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تلك الليلة، وقبل أن يحدث القتال، وسأله: هل لهؤلاء القوم- يعني السيدة عائشة، وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا- حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟
قال: نعم.
قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟
قال: نعم.
قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ أي بالقتال بيننا وبينهم.
قال: إني لأرجو أن لا يُقتل منا ومنهم أحد نقّي قلبه لله، إلا أدخله الله الجنة.
وهذا لأن كل واحد منهما كان متأولًا أنه على الحق، واجتهد في ذلك، فمنهم من أصاب، فله أجران، ومنهم من أخطأ، فله أجر واحد، ولا ينطبق عليهم الحديث: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بَسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.
بداية القتال
بدأت الحرب يوم الأربعاء 15 جمادى الثاني سنة 36 هـ، 7 من ديسمبر سنة 656 م، واستيقظ علي بن أبي طالب رضي الله عنه من نومه على صوت السيوف، والصراخ، والصياح، ولا يعلم من أين بدأ القتال، وكيف نشب بين الفريقين، وكذلك الحال في معسكر السيدة عائشة رضي الله عنها ومن معها طلحة، والزبير، وابنه عبد الله، وسائر الجيش، وصرخ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الناس أن كُفّوا، لكنه لم يستطع لشدة المعركة، فلما نظر رضي الله عنه إلى المسلمين تتطاير رءوسهم بأيدي بعضهم البعض فقال: يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة.
ونادى في الناس: كفوا عباد الله، كفوا عباد الله.
ثم احتضن ابنه الحسن، وقال: ليت أباك مات منذ عشرين سنة.
فقال له: يا أبي قد كنت أنهاك عن هذا.
قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.
فلم يكن يتوقع أحد أن تتفاقم الأمور إلى هذه الدرجة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وظل رضي الله عنه في محاولة كف الناس عن القتال، لكنه لم يستطع، وقد عمّت الفتنة، واشتد القتال.
- ممن التقى بسيفه مع الآخر في هذه المعركة الزبير بن العوّام، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما.
كم من المرات قاتلا جنبًا إلى جنب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، وما بعدها، وكان عُمْر عمار بن ياسر حينها تسعين سنة، وعمر الزبير بن العوام خمسة وسبعين سنة، ومع قدرة الزبير على قتل عمار رضي الله عنهما، إلا أنه لا يستطيع فقد تحملا معًا الكثير في سبيل بناء الدولة الإسلامية التي يُهدم اليوم من دعائمها الكثير، وقد تربيا معًا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُذّبا كثيرًا في سبيل الله، ولكنها الفتنة، وما كان لهما أن يتقاتلا، وهما في هذا العمر دفاعًا عن باطل، أو رغبةً في الدنيا.
فيقول الزبير رضي الله عنه لعمار بن ياسر رضي الله عنه: أتقتلني يا أبا اليقظان؟
ويضربه عمار بن ياسر رضي الله عنه بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله.
ويخشى الزبير بن العوّام أن يكون ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفئة الباغية حين قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
فيخشى الزبير رضي الله عنه أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، وهذا ما حدث، ولم يقتل أحدهما الآخر.
- ويبحث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه، ويلتقيان، فيقول علي رضي الله عنه للزبير رضي الله عنه: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم، فنظر إليّ وضحك، وضحكتُ إليه، فقلتَ:
لا يدع ابن أبي طالب زهوه.
فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَرِّدٍ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ؟
فقال الزبير: اللهم نعم! ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.
وبعدها أخذ الزبير بن العوّام رضي الله عنه خيله، وبدأ في الرجوع عن القتال، ولم يأخذه الكبر والعزة، وهو أحد رءوس الجيش الذي يبلغ تعداده ثلاثون ألفًا، وذلك لما ذُكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو ينسحب من ساحة القتال، ويعود، يقول له ابنه عبد الله بن الزبير:
جمعت الجموع، ثم تعود.
فيقول الزبير رضي الله عنه: والله لا أقاتل عليًا.
ويخرج الزبير رضي الله عنه من ساحة القتال متجهًا إلى مكة، وفي منطقة تًسمّى وادي السباع، وعلى بعد أميال قليلة من البصرة يتبعه عمرو بن جرموز، وهو ممن كان في جيش علي رضي الله عنه، ومع الزبير رضي الله عنه غلامه، فيقول ابن جرموز لهما: إلى أين المسير؟
فيقولان: إلى مكة.
فيقول: أصحبكما.
وفي رواية أن الزبير رضي الله عنه كان يقول: إني أرى في عين هذا الموت.
ويأتي وقت الصلاة، فيؤمّهما الزبير رضي الله عنه، وبعد أن يكبر يكبيرة الإحرام يهجم عليه ابن جرموز، ويقتله، وهو يصلي، ثم يأتي بسيف الزبير رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فرحًا مسرورًا، ظانًا بذلك أنه يدخل السرور على قلب علي رضي الله عنه، ويصل الخبر إلى علي رضي الله عنه، فيبكي بكاءً شديدًا، ويرتفع نحيبه، ويمسك سيف الزبير رضي الله عنه ويقول: طالما كشف هذا السيف الكُرَب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورفض علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يدخل عليه عمرو بن جرموز وقال: بَشّر قاتل ابن صفية بالنار.
فلما أُخبر بهذا ابنُ جرموز قتل نفسه فباء بالنار، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولا زال القتال مستمرًا بين الفريقين، وكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقاتل بيده اليسرى، بينما كانت يده اليمنى شلّاء من يوم أُحد، حين صد بها الرمح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو يقاتل، وكان عمره أربعًا وستين سنة، أتاه سهم طائش لا أحد يعرف مصدره، ويقول من يكرهون الدولة الأموية: إن الذي رماه بالسهم هو مروان بن الحكم.
ولم تثبت أي رواية هذا الأمر، وقتل هو الآخر رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان هو والزبير رضي الله عنهما من أوائل من أسلم من الصحابة، وظلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حياتهم كلها مجاهدين في سبيل الله، ويتزعم الجيش في هذا الوقت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه وأرضاهما.
ويشتد القتال بين الفريقين وتتطاير الرءوس، والأيدي، والأرجل، ويذكر الرواة أن هذه الموقعة كانت أكثر المواقع قطعًا للأيدي والأرجل.
موقف السيدة عائشة رضي الله عنها
وحتى هذه اللحظة لم تدخل السيدة عائشة رضي الله عنها ساحة القتال، فيذهب إليها كعب بن ثور قاضي البصرة ويقول لها: يا أم المؤمنين، أنجدي المسلمين.
فتقوم السيدة عائشة رضي الله عنه وأرضاها، وتركب الهودج ويوضع على الجمل، وتدخل إلى ساحة القتال لتنصح المسلمين بالكفّ عن القتال، وعن هذه المجزرة التي لم تحدث من قبل في تاريخ المسلمين.
وتسيء كتابات مَن تربَوا على أيدي الغرب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في هذا الموقف، فيقول طه حسين في كتابه (علي وبنوه): إن السيدة عائشة خرجت تتحدث إلى مَن على يمينها محرّضة، وإلى مَن على شمالها محمسة، وإلى مَن أمامها مذكرة، وأنها كانت تشجع الناس على القتال.
ويقول طه حسين أيضًا: إن عليَا رضي الله عنه عندما سمعهم يلعنون قتلة عثمان، قال: يلعنون قتلة عثمان، والله ما يلعنون إلا أنفسهم فهم قتلوه، اللهم العن فتلة عثمان.
ولا يصح من هذا كله إلا الجملة الأخيرة: اللهم العن قتلة عثمان.
وقد قالها علي رضي الله عنه عندما سمع دعاء الفريق الآخر على قتلة عثمان، ولا ندري من أين أتى طه حسين بهذه القصة، وبهذا الكلام الذي لم يذكر أي توثيق له.
وعلى هذا النسق أيضًا تقول زاهية قدّورة في كتابها (عائشة أم المؤمنين): إن السيدة عائشة بدأت تحركاتها الظاهرة لنشر الدعاية ضد علي بحجة المطالبة بدم عثمان، بل إنها اتهمت عليًا بقتل عثمان، ولهذه الخصوم بين عائشة وعلي أسباب:
1- أن عائشة كانت أول زوجة بنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وخديجة هي أم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقدت عليها فاطمة لأنها زوجة أبيها، وحزن علي رضي الله عنه لهَمّ زوجته ونشأت بين علي وعائشة الخصومة بسبب هذا الأمر.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب السيدة فاطمة حبًا شديدًا، وقال عنها أنها سيدة نساء العالمين، فتقول الكاتبة إن هذا أيضًا جعل الغيرة تزيد في قلب السيدة عائشة.
3- تقول الكاتبة أن عليًا رضي الله عنه أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بتطليق السيدة عائشة بعد حادث الإفك قبل أن يتحقق الأمر، والنساء سواها كثيرًا، وذلك لكراهته لها، وازداد الأمر تعقيدًا كما تقول الكاتبة.
4- أن السيدة فاطمة وزوجها سيدنا علي قد أظهرا الشماتة سرًا أو جهرًا- على خلاف- عندما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها في حادث الإفك.
5- أن عليًا كان يحقد على السيدة عائشة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرّب أباها أبا بكر رضي الله عنه أكثر منه، ومن ثَمّ حقد عليها، وحقدت هي عليه أيضًا.
6- أن السيدة عائشة لم تُرزق بأولاد بينما رزق علي وفاطمة بالحسن والحسين اللذين كان يحبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوجد ذلك الغيرة عند السيدة عائشة.
7- تذكر الكاتبة أن النبي صلى الله عليه لما مرِض مرَض الموت اختار بيت السيدة عائشة، فغضب علي لهذا الأمر.
8- تقول الكاتبة أن السيدة عائشة سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته يأمر أن يصلى أحد بالناس فقالت لبلال: اجعل أبا بكر يصلي بالناس.
فحقد عليها عليّ لهذا الأمر واتهمها به، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال الناس: كيف يرضاه الرسول لديننا بأن أمره أن يؤمهم في الصلاة ولا نرضاه لدنيانا.
فكان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، فتشير الكاتبة بهذا أن هذه لعبة لعبتها السيدة عائشة ليتسلم والدها الخلافة، ثم تأتي الكاتبة برواية أخرى تقول أن العباس رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه:
امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله. فلا يختلف عليك اثنان. فقال له علي: وهل يطمع فيها طامع غيري.
9- بعد وفاة السيدة فاطمة ذهب سائر زوجات النبي صى الله عليه وسلم وقدمن العزاء لعلي رضي الله عنه، ولم تذهب السيدة عائشة، ونُقل على لسانها لعلي رضي الله عنه ما يدل على السرور.
ثم تقول الكاتبة: هذه هي الأسباب التي ظهرت في شكل خصومة انتهت إلى سفك الكثير من الدماء في موقعة الجمل.
وهذا الكتاب من المفترض أن يكون كتابًا لأهل السنة، لكن كل مصادر الكتاب عن علم الكاتبة، أو عن جهلها مصادر شيعية.
وما حدث أن السيدة عائشة رضي الله عنها عندما ذهب إليها كعب بن ثور يطلب منها نجدة المسلمين، ودخلت هودجها، ووضع الهودج على الجمل، ودخلت ساحة القتال نادت على المسلمين جميعًا: الله الله يا بَنِي، اذكروا يوم الحساب.
وأعطت مصحفها لكعب بن ثور وقالت له: ارفعه بين الناس، لعل الله أن يزيل به ما بين الناس.
فلما أخذ المصحف، ورفعه تناوشته السهام، فقُتل لتوّه، ودخلت السيدة عائشة بالجمل في ساحة القتال، ومن ثَم سُمّيت الموقعة بموقعة الجمل، فكان الناس جميعًا يقاتلون حميّة حول الجمل بينما السيدة عائشة رضي الله عنها من داخل الهودج تأمر الناس بالكف عن القتال، إلا أن الناس جميعًا كانوا يتفانون في القتال حول الجمل، وقتل ممن يمسك بخطام الجمل سبعون رجلًا، فكان احتدام القتال، وقوته، ومنبعه من حول جمل السيدة عائشة رضي الله عنها، فأشار القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه بقتل الجمل، أو عقره مع المحافظة والحماية لهودج السيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك حتى يهدأ القتال، وتزول الفتنة، واجتمع القوم على الجمل ليقتلوه، أو يعقروه، بينما الفريق الآخر يستميت في الدفاع عن الجمل، وكان آخر المدافعين عن الجمل عبد الله بن الزبير بن العوّام، وهو ابن أخت السيدة عائشة رضي الله عنها، فلما أُخبرت السيدة عائشة بذلك قالت: واثكل أسماء.
فقد ظنت رضي الله عنها أنه سيموت في هذا الموقف، وقد جُرح رضي الله عنه سبعة وثلاثين جرحًا، وكان من المقاتلين الأشداء، لكنه لم يقتل رضي الله عنه، بل استمرت حياته، وامتدت بعد ذلك مدة طويلة.
بعد قتال مرير أفلح فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عقر الجمل، ولما وقع الجمل انهارت معنويات جيش السيدة عائشة رضي الله عنها وبدأ الناس يفرون، وأصبح النصر في جانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورُشق هودج السيدة عائشة رضي الله عنها- قبل أن يسقط- بالرماح من كل جانب حتى أصبح مثل القنفذ كما يقول الرواة، ويأمر علي رضي الله عنه الناس بالكف عن ضرب الهودج بالسهام، والسهام لا تفرق بين الجمل، والهودج منها ما يرمي به أهل الفتنة، ومنها ما هو غير مقصود.
واجتمع المسلمون على هودج السيدة عائشة، فرفعوه من على الجمل المعقور ووضعوه على الأرض، وأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن تنصب على الهودج قبّة، فنُصبت عليه خيمة حتى يُحفظ سترها رضي الله عنها، وجاءها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان مشاركًا في حصار عثمان رضي الله عنه، لكنه تاب، وندم، وبكى، وعاد إلى صف المسلمين وحاول أن يرد القتلة بسيفه عن عثمان رضي الله عنه، لكنه لم يستطع، وبعد ذلك بايع عليًا رضي الله عنه، وها هو الآن يقاتل في صف علي رضي الله عنه، ونحسبه على خير، فقال للسيدة عائشة: هل وصل إليك شيء من الجراح فقالت له: لا، وما أنت بذاك.
مما يدل على عدم رضاها عنه لما فعله ابتداءً في حق عثمان رضي الله عنه.
ثم جاء عمار بن ياسر رضي الله عنه وكان عمره يومئذٍ تسعين سنة بينما كان عمر السيدة عائشة رضي الله عنها أربعًا وأربعين، أو خمسًا وأربعين سنة، فقال لها رضي الله عنه:
كيف أنتِ يا أم؟
فقالت: لست لك بأم.
فقال: بلى، أمي وإن كرهتِ.
بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما
وجاء إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مسلِّمًا، وسائلًا فقال: كيف أنت يا أم؟
فقالت: بخير.
فقال: يغفر الله لكِ. وفي رواية فقالت: ولكَ.
وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسلّمون على أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فما زالوا يعظّمون هذه السيدة التي هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها حتى نهاية المعركة كانت على يقين تام- بعد اجتهادها- أنها على الحق، وكانت أعلم الناس، وأكثر الناس رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي هريرة رضي الله عنه، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: كان إذا أُشكل علينا حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا عند عائشة علمًا من كل حديث.
وقد كانت رضي الله عنها أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، روى البخاري بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
فقلت: من الرجال؟
فقال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
فعد رجالًا.
ولا خلاف بين أهل السنة أن السيدة خديجة، والسيدة عائشة رضي الله عنهما أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الخلاف اليسير، أيتمها أفضل.
بعد أن انتهت المعركة أدركت أنها كانت على خطأ، وندمت على قدومها، وكانت بعد ذلك كلما ذُكرت موقعة الجمل، بكت، وتمنّت لو أنها قد ماتت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ثم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يوضع هودج السيدة عائشة- وهي فيه- في أفخر بيوت البصرة، وكان بيت رجل يُسمّى عبد الله بن خلف الخزاعي، تحت الحماية والحراسة معززة مكرمة، ويذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليتفقد قتلى الفريقين، وكانت لحظات شديدة، وقاسية عليه رضي الله عنه، وكان يبكي بكاءً مرّا شديدًا، ويمر رضي الله عنه على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وهو مقتول، وشهيد في ساحة المعركة، ويجلس بجواره، ويبكي، ويقول: لهفي عليك يا أبا محمد.
ويمرّ على محمد بن طلحة بن عبيد الله، والذي قُتل أيضًا في هذه المعركة، فيبكي عليه، ويقول: هذا الذي كنا نسميه السجّاد.
من كثرة سجوده، وقد كان رضي الله عنه تقيًا ورعًا، ويمرّ رضي الله عنه على القتلى من الفريقين يدعو لهم جميعًا بالمغفرة والرحمة ويصلّي على الشهداء من الفريقين، ويأمر بدفنهم، وتُجمع الأسلاب وهو ما تركه جيش البصرة، فيضع علي رضي الله عنه هذه الأشياء في مسجد البصرة ويقول: من كان له شيء يعرفه فليأخذه.
ويأمر رضي الله عنه بعدم الإجهاز على الجرحى، بل مداواتهم، وعدم متابعة الفارّين وألا يُقتل أسير، وذلك لأن كلا الفريقين كان يظن أنه على الحق وكلاهما من المسلمين.
ويريد أهل الفتنة أن توُزع عليهم الغنائم، ومن فقه علي رضي الله عنه أن قال بعدم وجود الغنائم بين المسلمين، وإنما تكون الغنائم من الأعداء، ومع إصرار أهل الفتنة على رأيهم، قال لهم علي رضي الله عنه:
فلنقسّم الغنائم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟!
فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا.
ويذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي، ويجهزها للذهاب إلى مكة بأفضل ما يكون التجهيز، ويختار لها أربعين امرأة هنّ أشرف نساء البصرة ليرافقنها إلى مكة، ومعها محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعًا.
وعلى باب بيت عبد الله بن خلف الخزاعي ذُكر لعلي رضي الله عنه أن اثنين من الناس يذكران السيدة عائشة بسوء، فأمر بجلد كل واحد منهما مائة جلدة تعزيرًا له على سبّه أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر كما نرى لم يكن فيه منتصر، ومهزوم بالمعنى الحربي؛ لأن الجميع من المسلمين، ومع كون الغلبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أنه كان أشد الناس حزنًا، وأسفًا، وألمًا، وكان هذا أيضًا شعور مَنْ غُلِبَ ومَن غَلَبَ على السواء.
وقد استشهد في هذه المعركة العظيمة من كلا الفريقين عشرة آلاف؛ خمسة آلاف من جيش علي رضي الله عنه، وخمسة آلاف من جيش السيدة عائشة، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم جميعًا، وكلٌّ من المسلمين، وقُتُل على أيدي المسلمين، وهذا العدد الضخم في يوم واحد، بينما قُتل في معركة القادسية ثمانية آلاف ونصف، وشهداء اليرموك كانوا ثلاثة آلاف، وشهداء معركة الجسر التي كانت من أشد الكوارث على المسلمين كانوا أربعة آلاف، بينما شهداء موقعة الجمل عشرة آلاف بأيدي المسلمين، فكانت من أشد البلاء على المسلمين [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُوراً] {الأحزاب:38}. ويجزي الله تعالى من اجتهد منهم فأصاب أجران، ومن اجتهد فأخطأ أجرًا واحدًا، وكل من الأخيار.