محبة النبي صلى الله عليه وسلم الصادقة لأزواجه رضيَ الله عنهن .
إن حب الشهوات من النساء وغيرها من متاع الدنيا وملذاتها مما جبل عليه عامة الناس ، وليس منقصة كما يتصور بعض الجهلة المنتسبين إلى العبادة والزهد ، قال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [1]، قال ابن عاشور رحمه تعالى : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدها بيان بأصول الشهوات البشرية التي تجمع مشتهيات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل ، إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلف ربما تعقبه سآمة )) [2].
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بحكم بشريته ليس بدعا في حب ما لذ وطاب من الطيبات من رزق الله تعالى ، ومن ذلك النساء ، قال صلى الله عليه وسلم : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم إنما حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة )) [3]، وما أعظم هذا التوازن والاعتدال في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم ووجدانه حيث جمع بين المحبة الفطرية الغريزية للطيبات ، والتعلق القلبي والسكون الروحي بالقرب من الله ومناجاته ، قال القرطبي رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم وكان عليه الصلاة والسلام يتشاغل بالنساء جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الإنسانية ، ويحافظ على الطيب ، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى ، ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى ، ولم يكن في دين محمد صلى الله عليه وسلم الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية كما كان في دين عيسى )) [4].
وقال الدكتور محمد رواس قلعة جي : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم نعم ، ليس عيبا أن يجب الرجل النساء ، ولكن العيب أن تشغل المرأة الرجل عن أداء واجباته تجاه ربه ، أو تجاه أمته ، أو تجاه فرد وجب له حق عليه ، ولكن العيب أن يصير الرجل عبدا للمرأة ، يرى حقها فوق كل حق ، وطاعتها فوق كل طاعة .
ورغم حب النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة ، فإن هذا الحب لم يقصر به في أداء واجباته نحو ربه ، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، ولا نحو أمته ، فقد أعطاها من فكره ووقته ما رقى به فوق الأمم ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس )) [5].
ومن هذا الباب كان حب النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه ومودته لهن ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب أزواجه على اختلاف بينهن في مواقعهن من قلبه الكبير ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم سأل عمرو بن العاص رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عائشة )) قال : إنما أقول من الرجال ؟ قال : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم أبوها )) . [6]
وكان صلى الله عليه وسلم يعبر عن هذا الحب الطاهر بطرائق وأساليب تنم عن الصدق في العواطف والرقة في المشاعر ، لا تكلف فيها ولا ضياع ، كحال من تاه من المترفين في قفار العشق والحب .
ومن أشهر ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من دلائل المحبة لأزواجه رضيَ الله عنهن أجمعين ما يلي :
1- كثرة الطواف والدخول عليهن .
صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة ، وله يومئذ تسع نسوة )) [7]، قال ابن حجر رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم وذكر عياض في الشفا : أن الحكمة في طوافه عليهن في الليلة الواحدة كان لتحصينهن ، وكأنه أراد به عدم تشوفهن للأزواج ، إذ الإحصان له معان منها الإسلام والحرية والعفة ، والذي يظهر : أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك ، ولم يكن واجبا ... ، وفي التعليل الذي ذكره نظر لأنه لأنهن حرم عليهن التزويج بعده ، وعاش بعضهن بعده خمسين سنة فما دونها ، وزادت آخرهن موتا على ذلك )) [8].
ومهما تكن الحكمة من كثرة طواف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على أهله ، فإن هذا الصنيع يدل على محبتهن وتعلق قلبه بهن ، فإنه لو كرههن ، أو كره بعضهن لم يفعل ذلك ، بل يعتزلهن ولا يأتيهن إلا لماما ، ولربما اختار البقاء خارج بيته مع أصدقائه ورفقائه على الأنس بهن والسكون إليهن ، وتعبير أنس ب : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم كان يطوف على نسائه )) يشعر بأن ذلك قد تكرر منه صلى الله عليه وسلم غير مرة ، والله أعلم .
وكان يأتي أهله إذا رغب ليلا أو نهارا ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم فعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ، ثم خرج إلى أصحابه فقال : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر في صورة شيطان ، فإذا أبصر أحدكم امرأة ، فليأت أهله ، فإن ذلك يرد ما في نفسه )) [9]، قال النووي رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم قال العلماء : إنما فعل هذا بيانا لهم وإرشادا لما ينبغي لهم أن يفعلوه ، فعلمهم بفعله وقوله ، وفيه أنه لا بأس بطلب الرجل امرأته إلى الوقاع في النهار وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه ، لأنه ربما غلبت على الرجل شهوة يتضرر بالتأخير في بدنه أو في قلبه وبصره ، والله أعلم )) [10].
التقبيل والمباشرة :
من أصدق أمارات الحب وأعمق أساليب التودد القبلة والمباشرة ، وذلك لما فيهما من تلامس الأعضاء الحساسة وتقارب الأنفاس بينهما ، ولا يتعاطاهما بصدق إلا المتحابون .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل زوجاته ويباشرهن رضيَ الله عنهن ، وكن يسعدن ويفرحن بذلك أشد الفرح ، مما جعلهن يقصصن مناسباتها تعليما للناس وابتهاجا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاصة من كن منهن صاحبة المناسبة .
صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عن عائشة رضيَ الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أحدى نسائه وهو صائم ، ثم تضحك )) [11]، قال السيوطي رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم قال القاضي : قيل يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف في هذا ، وقيل : التعجب من نفسها حيث تحدثت بمثل هذا الحديث الذي يستحيى من ذكره ، لا سيما حديث المرأة به عن نفسها للرجال لكنها اضطرت إلى ذكره لتبليغ الحديث والعلم ، فتتعجب من ضرورة الحال المضطرة لها إلى ذلك ، وقيل : ضحكت سرورا لتذكر مكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وحالها معه وملاطفته لها ، ويحتمل أنها ضحكت تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بحديثها )) [12].
3- المحادثة والملاطفة :
رغم تزاحم الواجبات والمسئوليات على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يخصص لأهله وقتا كافيا يأنس فيه إليهن ويأنسن هن إليه ، ولا يفعل كما يفعل كثير من رجال زماننا ، ومنهم بعض أهل الخير من العلماء والدعاة ، من تطبيق جميع ما في جعبتهم من معاني الألفة والبشاشة ، والتحلي بالروح الاجتماعية في التعامل مع الناس في المسجد أو في الجامعة أو في المكتب ، وإذا انقلب إلى أهله عبس منه الوجه ، وخرص اللسان ، وبرد الإحساس .
قال ابن القيم رحمه الله صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى العصر دار على نسائه فدنا منهن ، واستقرأ أحوالهن ، فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصها بالنوبة )) [13].
صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم وحفظ من سيرته مع أصغر نسائه عائشة رضيَ الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها فيه ، وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها و شرب ، وإذا تعرقت عرقا – وهو العظم الذي عليه لحم – أخذه فوضع فمه موضع فمها ، وكان يتكئ على حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها ، وربما كانت حائضا ، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة )) . [14]
4- الممازحة والمداعبة .
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان مع أهله وأصحابه وغيرهم ، ومع القريب والغريب على غاية من سعة الصدر ، ودوام البشر ، وحسن الخلق ، وإفشاء السلام ، و البدار به من لقيه ، والوقوف مع من يستوقفه ، والمشي مع من أخذ بيده ، حتى من الولدان والإماء ، والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا ، وإجابة الداعي ولين الجانب حتى يظن كل أحد من أصحابه أنه أحبهم إليه )) .
و صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم كان أدبه صلى الله عليه وسلم في ممازحته لأهله وأصحابه أنه لا يقول إلا الحق ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا ! قال صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم إني لا أقول إلا حقا )) [15]
ومن ممازحته لأهله صلى الله عليه وسلم ما روت عائشة رضيَ الله عنها ، قالت : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع ، وأنا أجد صداعا في رأسي ، وأنا أقول وارأساه ، فقال : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم بل أنا يا عائشة وارأساه )) ثم قال : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم ما ضرك لو مت قبلي ، فغسلتك وصليت عليك ، ثم دفنتك !!)) قلت : لكأني بك والله لو فعلت ذلك ، لقد رجعت إلى بيتي وأعرست فيه ببعض نسائك ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ...)) [16].
5- الحزن على مفارقتهن :
من أصعب الأمور على المحبين فراق من أحبوهم وأحبوه سواء كان بسبب السفر أو السجن ونحوهما ، فضلا عن الموت الذي لا لقاء بعده في الدنيا أبدا .
و لا يخفى على أحد ممن له إلمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضيَ الله عنها من حماية و حياطة للنبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كانت رضيَ الله عنها يواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمالها وجاهها ، فلم تجرأ قريش على فعل الكثير ضد النبي صلى الله عليه وسلم بسبب هذه السيدة وكذلك عمه أبي طالب ، ولما توفيا في سنة واحدة تضاعفت الآلام والمصائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحزن لفراق زوجه وعمه حزنا شديدا وعرف هذا العام بعام الحزن .
ولم يفارق الحزن على خديجة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلما ذكرها أو رآى شيئا من آثارها شوهد على وجهه صلى الله عليه وسلم معالم الحزن والأسى لما يتذكر من خديجة ومن إيمانها وحبها و أياديها عليه .
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم إن خديجة من نعم الله الجليلة على محمد عليه الصلاة والسلام فقد آزرته في أحرج الأوقات ، وأعانته على إبلاغ رسالته ، وشاركته مغارم الجهاد المر ، وواسته بنفسها ومالها ، وإنك لتحس قدر هذه النعم عندما تعلم أن من زوجات الأنبياء من خن الرسالة ، وكفرن برجالهن ، وكن من المشركين من قومهن وآلهن حربا على الله ورسوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [17].
أما خديجة فهي صديقة النساء ، حنت على رجلها ساعة قلق ، وكانت نسمة سلام وبر ، رطبت جبينها المتصبب من آثار الوحي ، وبقيت ربع قرن معه ، تحترم قبل الرسالة تأمله وعزلته وشمائله ، وتحملت بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة ، وماتت والرسول صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره ، وهي تجاوز الخامسة والستين ، وقد أخلص لذكراها طول حياته ّ)) [18].