مقدمة
إنكـار الذات معناه: أن الإنسان لا يرى نفسه مطلقًا، ليس لنفسه حـظٌ في حياته، وإن كان حلالًا، وإن كان مقبولًا في عرف الناس، وفي الشرع، لكنه دائمًا يؤخر نفسه، ويقدم غيره.
إنكار الذات معناه: أن تتخلص النفس من حظ النفس، فلا تهتم بثنـاءٍ، ولا مدح، ولا تنتظر أن يشار إليها في قول أو فعل.
إنكار الذات معناه: أن تؤخر حاجات النفس الضرورية، وتقدم حاجات الآخـرين، حتى وإن لم تربطك بهم صلات، أو علاقات رحم، أو مصلحة، أو مـال.
إنكـار الذات هو أعلى درجات السمو في النفس البشرية، تقترب فيه النفس من الملائكة، بل لعلها تفوق الملائكة، لأن الملائكة جبلت على الطـاعة، أما الإنسان فهو مخير بين الخير، والشر.
ولعل أكثر مثل يوضح لنا إنكار الذات نجده في الأم، في تعاملها مع أولادها، وليس معنى إنكار الذات، أن الإنسان لا قيمة له، بل على العكس، فالمنكرون لذواتهم هم أعلى الناس قيمةً، وأرفعهم قدرًا، لكنهم لا ينتظرون من الناس مقابلًا لذلك.
الأم مثلًا لا ترى نفسها أمام أولادها، قد تتعب، قد تـسـهر، قد تنفق، قد تـسـاعد، تفعل أي شيء، أي شيء، وهي سعيدة بذلك؛ لأنها أسعدت أولادها، ولا ترى ما أصابها من تعب أو سهر أو مرض، هذه هي الأم.
بيد أن إنكار الذات عند المؤمن أعلى من ذلك، أعلى من ارتباط الأم بوليدها، لمـاذا؟
ذلك لأن الأم ترتبط بوليدها برابطة فطرية، طبيعية، كما أنها لا تنكر ذاتها إلا مع أطفالها، فقد لا تفعل ذلك مع جيرانها، أو معارفها، أو أقاربها، أو حتى مع زوجها، أمـا المؤمن الذي يفعل ذلك، فإنه ينكر ذاته في حياته كلها، مع القريب والبعيد، مع الأهل، وغيرهم، مع الأصحاب، وغير الأصحاب، بل قد يفعل ذلك مع من أخـطـأ في حقه وآذاه، صفة عجيبة حقًا ، صعبة، عالية جدًا، في أعلى درجات سلم الإيمـان.
أين حظ النفس عند الصديق؟
ولقد كان الصديق رضي الله عنه من أروع الأمثلة الإسلامية على صفة إنكار الذات، أنكر الصديق رضي الله عنه ذاته في حق الله عز وجل، فلا يأمره الله بشيء، ولا ينهى عن شيء، إلا امتثل، واستجاب، مهما كانت التضحيات، الصديق أنكر ذاته في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في إنكار ذاته مع الرسول لا تحصى، فهو لم يكن يرى نفسه مطلقًا بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصديق قد أنكر ذاته مع المؤمنين، حتى من أخطأ في حقه منهم، بل حتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة، المعروفة بين الناس
ابحث في حياة الصديق، ونَقّب، أين حظ النفس عند الصديق؟
لا تجد، أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر من حبٍ للمال، وحبٍ للجاه، والسلطان، وحب للسعادة، وحب الظهور، بل حب الحـيـاة؟
أين ذلك عند الصديق؟
لن تجده أبدًا، مثال عجيب من البشر، وآية من آيات الرحمن في خلقه،
ولعلنا نكتفي هنا بالمرور السريع على مثال من إنكار الصديق لذاته، ولعلنا نتوقف عند المـال مثلًا.
أين حظ الصديق من ماله؟
جبل الصديق رضي الله عنه على حب العطاء، حتى لتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء ويبحث عنه، وهذا شيء عجيب، فالإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حبًا شديدًا، قال عز وجل: [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا] {الفجر:20} .
وقال: [قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا] {الإسراء:100} .
أي شديد البخل وشديد المنع، الصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سَوّاه على هذه الصورة، فالصديق كان يحب الإنفاق حتى في الجاهلية قبل أن يسلم. عمله في ضمان الديات: كان رضي الله عنه قبل إسلامه مسئولًا عن ضمان الديات والمغارم في مكة، فإذا سأل قريشًا ضمانًا قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه، وهذا عمل خطير، فقد يتحمل الصديق دية رجل، ثم لا يوفي أهله، فيكون على الصديق قضاؤها، أي أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير من المال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس، وتحمل مغارمهم، إذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه، فما بالكم بعد أن أسلم؟
ما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قدسيًا ينقله عن رب العزة عز وجل يقول فيه الله تعالى: انْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ؟
وذلك كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ الصديق لا يحتاج إلى قسم الرسول صلى الله عليه وسلم ليصدقه، الصديق رضي الله عنه كان واضعًا نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي:
إن كان قال فقد صدق.
هكذا، مجرد القول يعني عنده التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمعه صلى الله عليه وسلم يقسم؟
الصديق ينفق ماله كله في سبيل الله
هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لنا كثيرًا من مواقف الصديق رضي الله عنه، فالصديق رضي الله عنه شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة، التعذيب الشديد والتنكيل الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، تألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية المفرطة من الكفار مكة، وسارع بماله ينقذ هذا، ويفدي ذاك، يشتري العبد، ثم يعتقه لوجه الله، هكذا [لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا] {الإنسان:9} .
مر رضي الله عنه ببلالٍ رضي الله عنه، وهو يعذب على صخور مكة الملتهبة، وعلى صدره الأحجار العظيمة، فساوم عليه سيده أمية بن خلف عليه لعنة الله، وعرض عليه أن يشتريه، أو يبادله بعبد آخر أجلد منه، وأقوى، وليس بمسلم، وفي رواية أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، ودار حوار رائع بين الصديق رضي الله عنه، وبين أمية بن خلف عليه لعنه الله، قال أمية يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق:
لو عرضت عليَّ أوقية واحدة من الذهب لبعته لك.
قال الصديق العظيم رضي الله عنه في هدوء: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لأشتريه.
سبحان الله، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف، أمية بن خلف المشرك لا يدرك قيمة بلال، بعد أن أسلم، لكن الصديق رضي الله عنه يدرك ذلك، فهذا العبد الأسود القليل في نظر المشركين، وأهل الدنيا، هذا العبد ذاته ثقيل في ميزان الله عز وجل، بما يحمل في قلبه من إيمان وتوحيد وإسلام، هذه المعاني الرقيقة السامية لا يفهمها أهل المادة، لكن يفهمها الصديق بعمق ويتعامل على أساسها.
اشترى الصديق رضي الله عنه أم عبيس رضي الله عنها وأعتقها، واشترى زنيرة رضي الله عنها وأعتقها، واشترى النهدية وابنتها رضي الله عنهما وأعتقهما، ولهما قصة لطيفة رواها ابن إسحاق في سيرته، كانت النهدية وابنتها ملكًا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما الصديق رضي الله عنه، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول:
والله لا أعتقكما أبدًا.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: حلّ يا أم فلان. أي تحللي من يمينك، فقالت: حل أنت، أفسدتها فأعتقهما.
قال: فبكم هما؟
قالت بكذا وكذا، قال الصديق رضي الله عنه: قد أخذتهما، وهما حرتان، ارجعا إليها طحينها.
هنا نجد ردًا لطيفًا عجيبًا من الجارتين المسلمتين اللتين تخلقتا بخلق الإسلام الرفيع قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟
سبحان الله، بعد النجاة من هذا الظلم الشديد، والسخرة المهينة ما زالتا تحرصان على مال سيدتهما، قال الصديق رضي الله عنه:
ذلك إن شئتما.
ومر الصديق رضي الله عنه بجارية بني مؤمل (حي من بني عدي) وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله آنذاك مشركًا، وكان شديد الغلظة على المسلمين، وكان يضربها ضربًا مؤلمًا لساعات طوال، ثم يتركها ويقول:
إني لم أتركك إلا عن ملالة.
مر بها الصديق رضي الله عنه، فابتاعها ثم أعتقها لوجه الله.
ودعا الصديق رضي الله عنه غلامه عامر بن فهيرة إلى الإسلام، فلما أسلم أعتقه أيضًا لوجه الله.
وكما رأينا فإن الصديق رضي الله عنه لم يكن يفرق بين عبد وأمه، أو قوي وضعيف، هذا الأمر لفت نظر أبيه أبي قحافة فقال له:
يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالًا جلدا، يمنعونك، ويقومون دونك؟
ولا ننسى أن الصديق رضي الله عنه من بطن ضعيف من بطون قريش، فقال الصديق رضي الله عنه في إيمان عميق:
يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل.
فأنزل الله في حقه قرآن كريمًا، قال عز وجل:
[وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) ]. {الليل17: 21} .
قال ابن الجوزي: أجمع العلماء أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وتخيل معي أن الله عز وجل ينزل قرآنًا يشهد فيه للصديق بالتقوى، بل بأنه الأتقى، ويشهد له بإخلاص النية، فهو يريد أن يتزكى، ولا يريد جزاء من أحد، وإنما يريد وجه الله فقط، ثم انظر الوعد الرباني الجليل العظيم، ولسوف يرضى، ومهما تخيلت من ثواب وجزاء ونعيم، فلا يمكن أن تتخيل ما أعده الله عز وجل لمن وعد بإرضائه [وَلَسَوْفَ يَرْضَى] {الليل:21} .
روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي.
الصديق رضي الله عنه كان يملك عند إسلامه أربعين ألف درهم، أنفقها جميعًا في سبيل الله عز وجل، أنفق منها خمسة وثلاثين ألف درهم في مكة، حتى لم يبق إلا خمسة آلاف درهم، أخذها معه في الهجرة أنفقها على رسول الله وعلى المؤمنين، حتى فني ماله، أو قل: بقي ماله. وليس: فني ماله. فالذي يبقى هو الذي يُنفق في سبيل الله، والذي يفنى هو الذي يُمْسك في يد العبد، ولكن تخيل قدر هذا الإنفاق لا بد أن نعرف قيمة هذه الأربعين ألف درهم في زماننا، لا تنسى أننا نتحدث عن زمن مر عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام، إذا كانت قيمة الجنيه المصري مثلًا قد تغيرت كثيرا في غضون عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة، فما بالك بألف وأربعمائة من السنين تعالوا نقوم بحسبة لطيفة، ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشترى شاة بدرهم، إذن الصديق رضي الله عنه كان يملك ما يساوي أربعين ألف شاة، ونحن اليوم نشتري الشاة بمتوسط 800 جنيه مصري مثلًا، إذن الصديق رضي الله عنه كان يملك ما يساوي 32 مليونًا من الجنيهات المصرية، يعني أكثر من 6 مليون دولار، وطبعًا كان الدرهم له قيمته، ولم يكن هناك تضخم، ولا أزمة اقتصادية، ولا تعويم للدرهم.
سبحان الله أنفق كل هذه الثروة الطائلة في سبيل الله، وفوق ذلك كان تاجرًا لم يتوقف عن تجارته، فهناك إنفاق فوق كل هذه الأموال المدخرة، وفوق ذلك هناك إنفاقه في المدينة المنورة من تجارته هناك، فقد أنفق كل أمواله في فترة مكة كما ذكرنا، لكن عاود الكسب من جديد، فمثلًا أنفق في تبوك أربعة آلاف درهم (حوالي مليون ونصف جنيه مصري) كانت هي كل ما يملك من مال، ولم يترك لأهله إلا كما قال: تركت لهم الله ورسوله.
هذا الإنفاق العجيب، والنفس المعطاءة هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنَي مَالُ أَبِي بَكْرٍ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ. وفي رواية الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَأْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ.