أولا: الفلاح في اتباع الكتاب والسنة
لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع الكتاب والسنة؛ القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] {المائدة:49} .
تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي، سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج، ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا، ولذلك نجحوا، ولا معنى لاتباع القرآن، دون اتباع السنة، فكما وضح فيما سبق أن الصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله، وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحيًا من الله عز وجل
[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3،4} .
السنة مُفصلِة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مُقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل أحيانًا تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تمامًا بتمام.
رأينا على سبيل المثال كيفية اتباع الصديق رضي الله عنه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، اتباعًا دقيقًا في كل خطوة، رأينا مثلًا إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع معارضة عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن الخير سيكون في إنفاذه، رأينا مثلًا اتباعه لأمره في صلح الحديبية، مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا كيف كان الخير في ذلك، رأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (الأئمة في قريش) وهو ليس قرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن وسنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة، جاء في موطأ الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضَلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كَتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ.
ثانيًا: شمول الإسلام
إن هذا الدين ليس كما يعتقد البعض صلاة وصيامًا وإيمانًا بوجود الله واليوم الآخر فقط، الإسلام دين متكامل يهتم بكل جزئية من جزئيات الحياة صغرت أو كبرت
شمول عجيب لا يفسر إلا بكون هذا الدين نزل من لدن عزيز حكيم، هذا دين يختلف كلية عن تشريعات الأرض والبشر
[مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] {الأنعام:38} .
روى الإمام مسلم وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.
أحد المشركين يقول هذا الكلام لسلمان الفارسي يتعجب المشرك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسلمين كل شيء، علمهم العقيدة، والعبادة، والمعاملات بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الآخرين، وعلمهم القتال، وعلمهم السياسة، وعلمهم التجارة، وعلمهم كل فنون الحياة، ثم هو يعلمهم كل شيء في أدق دقائق حياتهم، يعلمهم كيف يكون الرجل في بيته، كيف يتعامل مع زوجته وأولاده ووالديه وإخوانه وخدامه، كيف يأكل ويشرب، بل كيف يحدث الحدث، وكيف يغتسل، وكيف ينظف نفسه، ويهتم بجسده وهيئته.
أمر لافت للنظر جدًا، وقد خاب قوم وخسروا، قصروا الدين على بعض العبادات فقط، وقالوا: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
أبدًا كل شيء في حياتنا يجب أن يكون لله عز وجل
[أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54} .
وقد رأينا كيف اجتمع الصحابة في نضوج كامل، ووعي دقيق يدبرون أمر دولتهم، يختارون زعيمهم على طريقة الكتاب والسنة، ويسمعون له ويطيعون بشرط اتباع الكتاب والسنة، ويديرون حياتهم بكاملها في ضوء الكتاب والسنة، رأينا هؤلاء الأطهار الذين اشتهروا بطول القيام، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، وجدناهم يحكمون دولتهم، ثم يحكمون الأرض بعد ذلك في حكمة واقتدار.
رأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه الذي كان معتادًا على الصيام، وعلى عيادة المرضى، وعلى شهود الجنائز، وعلى إطعام الفقراء، رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم، ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب ويُسَيّر الجيوش، ويفتح البلدان ويقر الشرع، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة، والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم، وجدناه يهتم ببيت المال، وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه مشتركًا في معارك هائلة منذ تولى الخلافة، وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشًا عظيمًا متفوقًا على غيره، وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود، وجدناه لا ينسى أحدًا من رعيته، وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها، ويعد طعامها، وجدناه يحب الشاة للضعفاء، وجدناه ما زال عائدًا للمريض، متبعًا للجنازة، وواصلًا للرحم، مهتمًا بأولاده، وزوجاته عطوفًا حنونًا على خدمه.
أيّ شمول! وأيّ كمال!
وإن كنا رأينا في هذه السطور أن الصديق رجل عظيم فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صديقًا، الإسلام، أعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال، وبناء الأمم وفي أزمان قياسية، ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة، والمتحاربة تكون في سنوات معدودة دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء، شمول الإسلام وكماله، درس لا ينسى من دروس التاريخ الإسلامي
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} .
ثالثًا: الشورى في حياة المسلمين
الشورى ليست أمرًا جانبيًا في حياة المسلمين، ولما وصف الله عباده المؤمنين في كتابه كان من صفاتهم الرئيسية
[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}.
ورأينا كيف اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في اجتماع من اجتماعات الشورى الرائعة، يقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والدليل بالدليل، فإذا اجتمعوا على رأي، واتفقوا عليه كان هذا الرأي هو رأي الجماعة الذي لا يتبع غيره، ولا يعلن سواه، لا يخرج رجل فيقول لقد اتفقوا على كذا وكذا بينما رأيي كان كذا وكذا، لا يخرج رجل فيقول رأيي كان صوابًا ولم يأخذوا به، أبدًا، المسلمون بعد الشورى لا يحدثون جيوبًا داخلية داخل صفهم، ما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة يقول رأيًا مخالفًا لما اتفق عليه المسلمون بعد الشورى، وهذا هو عين الصواب، ويا حبذا لو استفدنا من هذا الدرس من السقيفة.
والشورى لا تكون في الأحكام التي جاءت من الله عز وجل، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو فرق هائل بين الديموقراطية والشورى، فرق المرجعية، الديمقراطية كنظام يقوم على احترام آراء الأغلبية، هو نظام طيب ولا شك، ويعتبر من أفضل نظم الحكم في العالم الآن، لكن هناك فارق خطير بينها، وبين الشورى، وهو المرجعية، نحن في شرعنا نرجع دائمًا إلى الكتاب والسنة، والديموقراطية ترجع إلى حكم الشعب فقط، نحن في شرعنا لا يجوز أن يجتمع الشعب على ما يخالف حكم الله ولا حكم رسوله، رأينا في السقيفة أن الأنصار تم استثناؤهم بالكامل من الترشيح بالخلافة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأئمة في قريش) مع أنهم كانوا يملكون من الحجج والأدلة والبراهين ما يكفي للنقاش والجدال، بل الصراع لشهور وسنوات، ولكن إذا كان الله قال، أو إذا كان الرسول قال، فلا مجال إلا الطاعة ولا مكان للشورى في هذا الرأي.
رابعًا: اتباع الشرع يضمن سعادة الدنيا والآخرة
تُرى أي الشعوب أسعد؟ الشعب الذي تتصارع فيه الفرق المختلفة على سلطة وحكم وسيطرة أم هذا الشعب الذي رأيناه في المدينة المنورة وهو يخرج مطمئنًا راضيًا سعيدًا بالاختيار مع أنهم يمرون بكارثة ضخمة وهي وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؟
اتباع الشرع يورث في القلب اطمئنانًا إلى جوار الله، وإلى دفاع الله عن المؤمنين، وهذا لا شك يورث في القلب سعادة، اتباع الشرع يزرع في القلب الرضى بما قسم الله، والرضى بما حكم الله، والرضى بما أصاب الله، هذا الرضى ولا شك يورث سعادة، اتباع الشرع يرسخ مشاعر الأخوة والألفة والمودة بين المسلمين، ولا شك أن هذا المجتمع المتحاب في الله مجتمع سعيد، اتباع الشرع يكون سببًا في أن تحل البركة في المال، والبركة في الأرض، والبركة في الجيش، والبركة في الأولاد، والبركة في الأعمال، بركات كثيرة تنهمر على الأمة المتمسكة بكتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم
[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96} .
لو رأيت انهيارًا في الاقتصاد، وضعفًا في الجيوش، وانحلالًا في الأولاد، وبوارًا في الأرض، واحتقارًا من كل صغير وكبير، ومن كل قليل وكثير، فاعلم أن هذا عقاب
[وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96}.
[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] {الشُّورى:30}.
طريق النجاح، والرفعة، والقوة، والصدارة في الدنيا واضح ومعروف
[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا] {نوح:10} .
ماذا يحدث لو عدنا لربنا واستغفرناه على ذنوبنا وتمسكنا بشرعنا، فبماذا يكافؤنا؟
هل سيدخلنا الجنة فحسب؟
كلا هناك شيءٌ آخــر، شيء أسرع
[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] {نوح:10: 12}.
كل هذا في الدنيا، وفوقه وأعظم منه نعيم الآخرة، فما أكرمه من إله، وما أحكمه من شرع.
خامسًا: اختيار الله تعالى لهذا الجيل
فالله عز وجل كما اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار هذا الجيل الذي عاصره للصحبة، وعلى قدر هذا الاصطفاء الجليل يجب أن يكون تقديرنا لهذا الجيل
ليس أبدًا كما يقول بعض من قل أدبهم وانعدم حياؤهم: هم رجال ونحن رجال.
أبدًا، هم جيل اختاره الله لحمل الأمانة، ولتوصيل الرسالة، ولتعليم الأمة ولنشر الدين، فكما اختار الله جبريل عليه السلام لينزل بالرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس بما أراده الله، فإنه قد اختار هؤلاء الأصحاب؛ لكي يسمعوا ويفهموا ويستوعبوا ويتحركوا بهذه الكلمات، وهذه الأفعال التي نقلوها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج هذا الجيل كأرقى ما تكون الأجيال، وصُنِعَ هذا الجيل على عين الله عز وجل، أبدًا والله، ليسوا كغيرهم من البشر.
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.
وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهَ.
وقال الله تعالى في حقهم:
[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100} .
سادسًا: الصديق أعظم رجال الأمة بعد الرسول صلى الله
بل هو أعظم أهل الأرض بعد الأنبياء، ومن الواضح أننا لم نوفه حقه بعد، ومن الواضح أيضًا أن كثيرًا من المسلمين لا يعلمون كثيرًا عن حياة الصديق رضي الله عنه، وقد يكون ذلك لقصر مدة حكمه رضي الله عنه، ولكن هذا ليس مبررًا أبدًا لغفلتنا عن سيرة حياة هذا العملاق، فها نحن قد تعرضنا في هذه الأسطر لجوانب محدودة من حياته رضي الله عنه، ولكن رأينا فيها العجب، فكيف بنا بعد أن نعلم خطواته في حروب الردة، وفارس، والشام.
لا شك أن دراسة تاريخ الصديق وأمثاله من عظماء المسلمين ستضرب أروع القدوات لنا ولأبنائنا من بعدنا، وخاصة أننا في زمان لا تعدو فيه قدوة كثير من أبنائنا على أن تكون لمطرب شرقي أو غربي، أو لكاتب علماني، أو لرجل لا يملك من مقومات النبوغ إلا المال.
ماذا يعرف أبناؤنا عن الصديق وعمر وعثمان وعن علي رضي الله عنهم أجمعين؟
ماذا يعرفون عن حمزة وخالد وعن القعقاع وعن الزبير؟
ماذا يعرفون عن موسى بن النصير، وعن يوسف بن تاشفين، وعن نور الدين محمود وعن صلاح الدين الأيوبي؟
لا يكفي هنا أن يعرف اسمه وسطرًا عن حياته، نريد معرفة كاملة لمناهج هؤلاء في حياتهم، وكيف وصلوا إلى أعلى درجات المجد في الدنيا، ونسأل الله أن يكونوا جميعًا من أهل الجنة، لا شك أن تاريخ هؤلاء الأبطال سيكون خير معين على إصلاح أنفسنا ومجتمعنا.
سابعًا: يتحتم على الأمة دراسة تاريخها إذا أرادت ال
إن دراسة التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة تعتبر من الأساليب التي يتحتم على المسلمين أن يأخذوا بها إذا أرادوا القيام من جديد وإذا رغبوا في إصلاح ما فسد من أحوالنا
كما ذكرنا من قبل فإن الله عز وجل جعل من كتابه العظيم القرآن قصصًا وتاريخًا، ولا شك أن هذا ه الأسلوب الأمثل لتربية الناس.
لا بد أن تشتمل مناهجنا التربوية على جوانب ضخمة من التاريخ، ثلث المناهج يجب أن يكون تاريخًا، ولا بد أن نقدمه بصورة شيقة لطيفة يقبلها الصغير والكبير، ويقبلها الرجل والمرأة، ويقبلها المتخصص والعامي.
لا بد أيضًا أن نُدرّس التاريخ بأسلوب هادف، يقوم في الأساس على استخلاص العبرة وعلى تربية الشعوب
[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111} .
لا يكفي أن نسرد الأحداث سردًا، لا بد من تحليل كل نقطة، لا بد من استعراض تفاصيل كل موقف، لا بد من الوقوف على المسببات والنتائج، لا بد من ربط التاريخ في أي فترة من فتراته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ولا بد من ربط التاريخ أيضًا بواقعنا المعاصر، عندها يصبح التاريخ حيًا ينبض، يصبح التاريخ دليلًا يقود إلى المستقبل، يصبح التاريخ واقيًا من الوقوع في الزلات والعثرات، يصبح أيضًا دافعًا للقيام بعد النكبات والسقطات.
هذا هو التاريخ الذي نريده، ولا نريد أن نقف في التاريخ على توافه الأمور وسفاسفها، لا يهمنا أن نعرف إن كانت نملة سليمان عليه السلام ذكرًا أم أنثى، ولا يهمنا أن نعرف إن كانت سفينة نوح ثمانين ذراعًا أو مائة ذراع، أو مائتي ذراع أو إن كان الفيل أول الحيوانات دخولًا أم أنه سبق بزرافة، نحن نريد التاريخ الذي يبني عليه عمل، ويستخرج منه عبرة، ويُهتدى بدراسته طريق.
ثامنًا: سيظل لهذا الدين أعداء إلى أن تقوم الساعة
سنة من سنن الله عز وجل، سيظل الصراع بين الحق الباطل، وسيظل التزوير والتزييف والتحريف والتبديل والتغيير من أقوى أسلحة الباطل، ولا يعذر المسلمون الصادقون بالجهل في مثل هذه المواطن، هذه حرب صريحة معلنة، ولا بد من الاستعداد لها، كما زوروا وحرفوا لا بد أن يوجد من يصحح يعدل.
تشويه تعاليم الإسلام يحدث من أول أيام البعثة النبوية الشريفة، قال الكافرون على رسولنا الكريم أقوالًا ما كانوا هم أنفسهم يصدقونها،
قالوا: ساحر.
قالوا: كاهن.
قالوا: شاعر.
قالوا: مجنون.
لكن كان التصحيح، والتعديل، والتبيين مسايرًا لهذا التزوير، بل متفوقًا عنه، فوقف الإسلام على قدميه.
ومرت الأيام، ودارت دورات التاريخ، وظهر من يطعن في نزاهة الصحابة، وفي أصول الدين، ظهرت فرق كثيرة ضالة أشاعت أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وتصدى لها المسلمين علماء إجلاء دافعوا عن الدين، ودافعوا عن رجاله، ثم ظهرت حركة الوضع في الأحاديث النبوية، والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمد الكذب عليه، فظهر علماء الجرح والتعديل، وظهر علم الرجال، ونخلوا الأحاديث نخلًا، فصححوا الصحيح، وحسنوا الحسن، وضعفوا الضعيف واستبان المسلمون بذلك أمرهم، واهتدوا إلى صراط مستقيم.
ثم ها هي حملة الاستشراق، وحملة العلمانيين، وحملة الجهال الذين يتكلمون في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ها هي تتناول تاريخ الإسلام ورجال الإسلام، ودين الإسلام بكل ما هو قبيح وشنيع، ولا بد للمسلمين الصادقين من وقفة كوقفة أسلافهم، الدفاع عن تاريخ الإسلام، وعن رجال الإسلام، دفاع عن دين الإسلام، وليس على قدر جهد العلماء فقط، بل هو جهد الآباء، والمدرسين، وأستاذة الجامعة، وأئمة المساجد، والدعاة إلى الله عز وجل، والمتعلمين بصفة عامة
بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً.
رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعِ.
من كان عنده علم فليظهره، ومن وصل إليه علم، فليصل به إلى غيره، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تاسعًا: مقام الخلافة مقام عظيم
رأينا اهتمام الصحابة بأمر الخلافة بصورة لا يتخيلها العقل، فمصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم مصيبة مرت بهم، وبأمة الإسلام، ومع ذلك فإن هذه المصيبة على فداحتها لم تثنهم عن اختيار الخليفة، في نفس اليوم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل سعيد بن زيد رضي الله عنه: متى بويع أبو بكر؟
قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا يوم وليسوا في جماعة.
الفرقة من أشد عوامل انهيار الأمم، طامة كبرى أن تتفرق الأمة الإسلامية إلى أكثر من ستين جزءًا منذ أن أسقط الغرب واليهود الخلافة العثمانية، وهم يزرعون في أعماقنا عن طريق التعليم، والإعلام أن التجمع الأمثل للناس لا يكون إلا على أساس القوميات، عربي، وكردي، وبربري، وباكستاني، وغيره، ثم العرب: مصري، وسوري، وسعودي، وأردني، وفلسطيني، وهكذا.
والأصل الذي نساه المسلمون أن التجمع في الإسلام لا يكون إلا على الإسلام، رأينا في هذا الكتاب كيف تجمع المسلمون من قبائل شتى ومناطق مختلفة على رباط واحد هو رباط العقيدة والإسلام، مع أنهم كانوا قريبي العهد بالجاهلية، وقريبي العهد بالقبلية، لكن لا تصلح هذه الأمة بغير هذا، ونحن مع أننا مكثنا قرونًا نتجمع على الإسلام إذا بنا نصاب بغزو فكري في سنوات معدودات فيهدم في داخلنا صرحًا بناه الأقدمون بجهد وعرق ودماء
[وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46} .
حديث خطير يرويه الإمام مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ هنا لمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ.
قال النووي رحمه الله في شرح ذلك أنه مات على صفة أهل الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم.
ثم تكملة الحديث:
وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ.
قال أحمد ابن حنبل هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، أي أنه لا يعرف ما الهدف من القتال، وقد يقاتل أخاه تحت هذه الراية، وقال إسحاق هي كقتال القوم للعصبية.
وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعُصْبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عُصْبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عُصْبَةً.
يا الله، أهكذا يكون التصوير واضحًا، القتال للقومية، والعصبية، والعائلة، والقبلية، وليس للإسلام، ماذا يحدث له؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.
نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عاشرا: دور التربية في بناء الأمم والشعوب
لا أعتقد أن أحدًا من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية.
الجهد الضخم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل، سواء في فترة مكة أو المدينة لم يصبح هباءً منثورًا بموته صلى الله عليه وسلم، أبدًا، معجزة هذا الدين هي بناء الرجال، ليس من السهل أبدًا أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة، فيبعدها عنه إلى الصديق رضي الله عنه، ليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه لو حمل الأمر رجل غيره، ليس من السهل أن يسابق الأنصار على بيعة قرشي، ليس من السهل أن يقبل أهل المدينة جميعًا، وأهل الإسلام جميعًا برجل واحد دون اعتراض أو تمرد، هذا كله نتاج تربية لم يأت هذا من فراغ، ولم ينزل عليهم الورع فجأة.
وإذا أردنا أن نكون مثلهم، فلا بد من التربية، لا بد من تربيته جيل يعرف قيمة الدنيا، ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة، ويرغب فيها، لا بد من تربية جيل يقدم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، لا بد من تربية جيل يستجيب لشرع الله، وإن تعارض مع مصلحته ورأيه، لا بد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه، لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته، إن رُبّي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمرًا يسيرًا إن شاء الله، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
كانت هذه دروسًا عشرة، أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها وأن يجعلها في ميزان حسناتنا أجمعين.
الخـاتـمـة
وختامًا وداعًا يا صّديق.
ووداعًا يا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووداعًا يا صاحب، ويا خليفة.
كم من اللحظات السعيدة مرت كدقائق قليلة، وأنا أعيش معك في مكة والمدينة.
أكاد أجزم أني أراك وأعرفك.
والله يا صّدّيق إني أحبك في الله.
وأسأل الله أن يجمعني، ويجمعنا معك في الفردوس الأعلى مع حبيبك، وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإلى لقاء قريب معك في حروب الردة، إن شاء الله.
وأختم بكلام قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مات الصديق رضي الله عنه، يوم ارتجت المدينة بأسرها لفراقه، يوم أن أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بيت الصديق، مسرعًا، باكيًا، مسترجعًا، ووقف، والناس حوله يقول:
رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله، وأنيسه، ومستراحه، وثقته، وموضع سرّه، ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله يقينًا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديًا وسمتًا، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء، صَدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله صديقًا فقال:
[وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {الزُّمر:33} .
وَاسَيْته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة، أكرم الصحابة، ثاني اثنين، صاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسنت الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفًا في بدنك، قويًا في أمر الله تعالى، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله تعالى، جليلًا في أعين الناس، كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر بك أمر الله، فسبقت والله سبقًا بعيدًا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا،
كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك.
الـمـراجـع
القرآن الكريم، والتفسير:
- تفسير ابن كثير.
- تفسير القرطبي.
-في ظلال القرآن.
الحديث النبوي الشريف، وشرحه:
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- سنن أبي داود.
- سنن الترمذي.
- سنن النسائي.
- سنن ابن ماجه.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل.
- مسند البيهقي.
- موطأ الإمام مالك.
ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
ـ شرح النووي لصحيح مسلم.
ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي.
ـ تحفة الأحوذي لشرح سنن الترمذي لعبد الرحمن المباركفوري.
كتب التاريخ:
ـ كتاب البداية والنهاية لابن كثير.
ـ كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير.
ـ كتاب التاريخ الإسلامي للأستاذ محمود شاكر.
ـ كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي.
ـ كتاب منهاج السنة لابن تيمية.
ـ كتاب العواصم من القواصم لابن العربي.
ـ كتاب أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، للدكتور إبراهيم شعوط.
ـ كتاب أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور الصلابي.
ـ عبقرية الصديق للعقاد.
- كتاب استخلاف أبي بكر الصديق للدكتور جمال عبد الهادي.
ـ كتاب الخلفاء الراشدون للدكتور عبد الوهاب النجار.
ـ كتاب الخلفاء الراشدون للشيخ حسن أيوب.
- كتاب إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري.
كتب التراجم:
ـ صفة الصفوة لابن الجوزي.
ـ حياة الصحابة للكاندهلوي.
كتب السيرة النبوية:
ـ الرحيق المختوم للمباركفوري.
ـ السيرة النبوية لابن هشام.
ـ الأساس في السنة لسعيد حوى.
كتب الفقه والأحكام:
ـ الأحكام السلطانية للماوردي.
ـ نيل الأوطار للشوكاني.