حلمه ورفقه كانا سببًا في الإساءة إليه وخروج البغاة عليه
في سنة 26هـ زاد عثمان رضي الله عنه في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم، وَأَبَى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيّحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: "أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم عليَّ إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به". ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا.
ويقول في إحدى خطبه بعد تفاقم الفتنة: "آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة، عيّابون طعّانون، يرونكم ما تحبون ويسترون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، لا يشربون إلا نغصوا، ولا يردون إلا عكرًا، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، ألا فقد والله عبتم عليّ ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فلستم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم وأوطأتكم كنفي، وكففت عنكم يدي ولساني فاجترأتم عليَّ، أما والله لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا وأحرى إن قلت: هلم. أُتِي إلي، ولقد أعددت لكم أقرانًا وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمهم رضيتم مني بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلي، ولم تكونوا تختلفون".
حلمه حتى مع الخارجين عليه
وقال رضي الله عنه في أيام الفتنة: "أستغفر الله إن كنت من ظَلَمْتُ، وقد عفوت إن كنت ظُلِمْتُ".
قال له معاوية: انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قِبَل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا. فقال له عثمان: أنا لا أبيع جوار الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، وإن كان فيه قطع خيط عنقي. فقال له معاوية: فأبعث إليك جندًا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك؟ فقال عثمان: أنا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم، وأضيق على أهل الهجرة والنصرة! فقال معاوية: والله يا أمير المؤمنين لتغتالين أو لتغزين. قال عثمان رضي الله عنه: حسبي الله ونعم الوكيل.
وقد قال له الخارجون وهم محاصروه: فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حالم من معك من قومك وذوي رحمك أو أهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال لهم: ولعمري لو كنت أريد قتالكم لقد كنت كتبت إلى الأحفاد، فقادوا الجنود وبعثوا الرجال.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن أبي هريرة قال: "إني لمحصور مع عثمان رضي الله عنه في الدار فرمي رجل منا، فقلت: يا أمير المؤمنين، الآن طاب الضراب، قتلوا منا رجلاً. فقال عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة إلا رميت سيفك، فإنما تراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي".
لما طعن عمر رضي الله عنه دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إني أريد أن أعهد إليك.
فقال: يا أمير المؤمنين، نعم، إن أشرت عليَّ قبلت منك.
قال: وما تريد أنشدك الله، أتشير عليَّ بذلك. قال: اللهم لا.
قال: والله لا أدخل فيه أبدًا. قال: فهب لي صمتًا، حتى أعهد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ادع لي عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا.
قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثًا، فإن جاء، وإلاَّ فاقضوا أمركم.
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم، فلا تدع أحدًا يدخل إليهم. وأمر عبد الله أن يشارك في مجلس الشورى الذي كَوَّنه، فيكون مع الأكثرين إن اختلفوا، ويكون مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف إن تساوت أعداد الفريقين.
ويروي مسور فيقول: فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفسًا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويوليه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. قال: فإني أخرج نفسي وابن عمي. فقلده القوم الأمر، وأحلفهم عند المنبر فحلفوا ليبايعن من بايع... فأقام ثلاثًا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء، وبذلك سميت رحبة القضاء، فأقام ثلاثًا يصلي بالناس صهيب.
قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي، فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ. فقال: عثمان. ثم بعث إلى عثمان، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير عليَّ؟ قال: علي. ثم قال لهما: انصرفا. فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير عليَّ؟ قال: عثمان. ثم دعا سعدًا، فقال: من تشير علي؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير عليَّ؟ قال: عثمان.
فلما كانت الليلة الثالثة، قال: يا مسور. قلت: لبيك. قال: إنك لنائم، والله ما اكتحلت بغماض منذ ثلاث (أَي ما نمت)، اذهب فادع لي عليًّا وعثمان. قال: قلت: يا خال بأيهما أبدأ؟ قال: بأيهما شئت. قال: فخرجت فأتيت عليًّا وكان هواي فيه، فقلت: أجب خالي.
فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم. قال: إلى من؟ قلت: إلى عثمان. قال: فأينا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قد سألته، فقال: بأيهما شئت. فبدأت بك وكان هواي فيك.
قال: فخرج معي حتى أتينا المقاعد، فجلس عليها عليٌّ، ودخلت على عثمان، فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي. فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، إلى علي. قال: بأينا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته، فقال: بأيهما شئت. وهذا عليٌّ على المقاعد.
فخرج معي حتى دخلنا جميعًا على خالي، وهو في القبلة قائم يصلي، فانصرف لما رآنا، ثم التفت إلى عليٍّ وعثمان، فقال: إني قد سألت عنكما، وعن غيركما، فلم أجد الناس يعدلون بكما، هل أنت يا عليٌّ مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
فقال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فالتفت إلى عثمان، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذا شئتما. فنهضنا حتى دخلنا المسجد، وصاح صائح: الصلاة جامعة. قال عثمان: فتأخرت والله حياء، لما رأيت من إسراعه إلى علي، فكنت في آخر المسجد.
قال: وخرج عبد الرحمن بن عوف، وعليه عمامته التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدًا سيفه، حتى ركب المنبر، فوقف وقوفًا طويلاً، ثم دعا بما لم يسمعه الناس، ثم تكلم، فقال: أيها الناس، إني قد سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي، وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي. فقام إليه عليٌّ فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. قال: فأرسل يده، ثم نادى: قم إليَّ يا عثمان. فأخذ بيده وهو في موقف علي الذي كان فيه، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم نعم. قال فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.
قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر.
وتمت بيعة ذي النورين غرة المحرم يوم الجمعة بعد مقتل الفاروق رضي الله عنه بثلاث ليال، سنة أربع وعشرين من الهجرة.
وعندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في الناس خطيبًا فأعلن عن منهجه السياسي، مبينًا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتنان بحطامها خوفًا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف، وكأن عثمان رضي الله عنه ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء، فقال رضي الله عنه: "أما بعد، فإني كُلّفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: اتباع كل من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة، وإن الدنيا خضرة وقد شهّيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها؛ فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها".
سار ابن مسعود من المدينة إلى الكوفة ثماني ليال حين قتل عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين قد مات، فلم نر يومًا أكثر نشيجًا من ذلك اليوم، ثم إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم نأل عن خيرنا ذا فوق (خيرنا سهمًا في الفضل والخير والسابقة في الإسلام)، فبايعنا عثمان بن عفان، فبايِعُوه. فبايعه الناس.
وقال رجل لابن مسعود رضي الله عنه لِمَ وليتم عثمان؟ قال: ولينا خير أمة محمد، ولم نأل.
وقال يزيد البكائي رحمه الله: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف الله أبا بكر، ثم قبض أبو بكر فاستخلف الله عمر، ثم قبض عمر فاستخلف الله عثمان.
ويقول القاضي شريك بن عبد الله رحمه الله: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فلو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أصحابه أحدًا أفضل من أبي بكر لأمر ذلك الرجل وترك أبي بكر، فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر، فلو علموا أن فيهم أحدًا أفضل منه كان قد غشونا، فلما احتُضر أبو بكر استخلف عمر بن الخطاب، فلو علم أبو بكر أن في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدًا أفضل من عمر لما قدَّم عمر، وترك ذلك الرجل، لقد كان غش أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما احتضر عمر بن الخطاب جعل الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعت الشورى بعثمان بن عفان، فلو علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن في القوم أحدًا أحق بها من عثمان، ثم نصبوا عثمان، وتركوا ذلك الرجل، لقد كانوا غشوا هذه الأمة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد، فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إمامًا، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه، ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إمامًا، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقى عثمان وعلي، وعبد الرحمن لا يتولى، ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثًا حلف أنه لم يغمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قَدّموا عثمان، فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قَدّم عليًّا على عثمان فقد ازدرى بالمهاجرين والأنصار. وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل؛ لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم.
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ وَاخْتِلاَف، أو: اخْتِلاَفٌ وَفِتْنَةٌ). قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: (عَلَيْكُمْ بِالأَمِيرِ وَأَصْحَابِهِ). وأشار إلى عثمان".
وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان، وكانت كما أخبر، وتضمن الحديث التنبيه على أحقية خلافة عثمان؛ إذ إنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف مع أمير المؤمنين، أمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل، أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمرًّا على الهدى لا ينفك عنه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم".
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن عثمان كان بعد عمر في الأفضلية رضي الله عنهم أجمعين، قال ابن تيمية: فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذٍ فيكون هذا التفضيل ثابتًا بالنص، وإلا فيكون ثابتًا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكر، وبما ظهر لما توفي عمر، فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم.
وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذه الفقرة أدلة قوية، كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى أحقية عثمان رضي الله عنه بالخلافة، وأنه لا مرية في ذلك، ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة، والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما، وهم أهل السنة والجماعة، فيجب على كل مسلم أن يعتقد أحقية عثمان رضي الله عنه، وأن يسلم تسليمًا كاملاً للنصوص الدالة على ذلك.
في يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 35 من الهجرة يصبح عثمان بن عفان رضي الله عنه صائمًا، ويحاول الصحابة رضي الله عنهم إيصال الماء إليه، لكنهم لا يستطيعون، ويأتي وقت المغرب دون أن يجد رضي الله عنه شيئًا يفطر عليه لا هو، ولا أهل بيته، ويكمل بقية الليل دون أن يفطر، وفي وقت السحر استطاعت زوجته السيدة نائلة بنت الفرافصة أن تحصل على بعض الماء من البيت المجاور خفية، ولما أعطته الماء، وقالت له: أفطر. نظر رضي الله عنه من النافذة، فوجد الفجر قد لاح، فقال: إني نذرت أن أصبح صائمًا. فقالت السيدة نائلة: ومن أين أكلتَ ولم أرَ أحدًا أتاك بطعام ولا شراب؟ فقال رضي الله عنه: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع عليَّ من هذا السقف، ومعه دلو من ماء، فقال: اشرب يا عثمان. فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد. فشربت حتى نهلت، ثم قال صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه: أما إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا.
فاختار رضي الله عنه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لشوقه إليه، ولِيَقِينِهِ بأنه سوف يلقى الله شهيدًا ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له من قبل.
وفي صباح هذا اليوم؛ الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35هـ، دخل عليه أبناء الصحابة للمرة الأخيرة، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالدفاع عنه، فأقسم عثمان رضي الله عنه على كل من له عليه حق أن يكفّ يده، وأن ينطلق إلى منزله، ثم قال لغلمانه: من أغمد سيفه، فهو حرّ، فأعتق بذلك غلمانه، وقال رضي الله عنه: إنه يريد أن يأخذ موقف ابن آدم الذي قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:28،29]. فكان آخر الناس خروجًا من عند عثمان رضي الله عنه هو الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصلى عثمان رضي الله عنه صلاة نافلةٍ ختم فيها سورة طه، ثم جلس بعد ذلك يقرأ في المصحف، في هذا الوقت كان أهل الفتنة يفكرون بشكل حاسم، وسريع في قتل عثمان رضي الله عنه، خاصة مع علمهم باقتراب الجيوش الإسلامية المناصرة للخليفة رضي الله عنه من المدينة المنورة، فدخل رجل يُسمى كنانة بن بشر التجيبي، وكان من رءوس الفتنة بشعلة من نار، وحرق بابَ بيتِ عثمان رضي الله عنه، ودخل ومعه بعض رجال الفتنة، وحمل السيف، وضربه به، فاتّقاه عثمان رضي الله عنه بيده فقطع يده، فقال عثمان رضي الله عنه عندما ضُرب هذه الضربة: باسم الله توكلت على الله. فتقطرت الدماء من يده، فقال: إنها أول يد كتبت المفصل. ثم قال: سبحان الله العظيم. وتقاطر الدم على المصحف، وتثبت جميع الروايات أن هذه الدماء سقطت على كلمة {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137].
بعد ذلك حمل عليه كنانة بن بشر وضربه بعمود على رأسه، فخرّ رضي الله عنه على جنبه، وهمَّ كنانة الملعون بالسيف ليضربه في صدره، فانطلقت السيدة نائلة بنت الفرافصة تدافع عن زوجها، ووضعت يدها لتحمي زوجها من السيف، فقُطعت بعض أصابعها بجزء من كفها، ووقعت السيدة نائلة رضي الله عنها، وطعن كنانةُ عثمانَ رضي الله عنه في صدره، واستشهد رضي الله عنه بعد العصر، وكان يومئذ صائمًا، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء، ودفن في ثيابه بدمائه، ولم يغسل كالشهداء، ودفن في حش كوكب بالبقيع، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يومًا.
استشهد ذو النورين عثمان رضي الله عنه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، والمبشَّر بالجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، وثالث الخلفاء الراشدين، وقد لَقِيَ بعد استشهاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وعده بذلك.