مشكلة الغيرة الشديدة عند نسائه صلى الله عليه و سلم .
من المشكلات الأسرية التي كانت تحدث في بيت النبي الكريم صلى الله عليه و سلم مشكلة الغيرة الشديدة ، والغيرة كما قال ابن حجر رحمه الله : بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء ، قال عياض وغيره : هي مشتقة من تغير القلب ، وهيجان الغضب ، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص ، وأشد ما يكون بين الزوجين )) [1].
ولا توجد امرأة ليس بغيراء ، وليس ذلك في الأصل بعيب ، إذا كان الدافع إليها غلبة المحبة لبعلها ، ولم تؤد إلى ظلم ضرتها وانتقاص حقها .
وكثيرا ما يعاني الرجل المعدد في النساء من حالات الغيرة المجاوزة للحدود الشرعية والعقلية ، ويتفاوت الرجال في طريقة التعامل مع مشكلة الغيرة وما ينتج عنها من آثار سلبية على الأسرة ، فمن الرجال من يقف حائرا واجما وسط أزواجه يصيح كلما صحن حوله ، ويسكن كلما سكن ، ومنهم من يوزع الركلات والضربات بينهن دون أن يفرق بين ظالمة ومظلومة ، وآخرون يلجئون إلى ركن من الحكمة شديد ، فينصف من الظالمة للمظلومة ، ويحاصر آثار الغيرة السلبية ، ويبطل مفعولها قبل أن تنفجر وتدمر البيت بأكمله .
وقد عرف بيت النبوة على شرفه وطهارته مشكلة الغيرة ، وتكررت حالاته بين نساء النبي الكريم صلى الله عليه و سلم فعانين من نوباتها وصرعاتها ، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام ، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت ، فجمع النبي صلى الله عليه و سلم فلق الصحفة ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ، ويقول : غارت أمكم )) ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت )) [2].
وفي الحديث فوائد ودروس نذكر منها :
الفائدة الأولى : تفهم نفسية الغيراء .
المرأة الغيراء في بعض حالاتها تشبه المجنونة ، وتتصرف بتصرفات غير محسوبة أحيانا ، قال ابن حجر رحمه الله : وقالوا فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها ، لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبا ، بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة ، وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا إن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه )) [3].
وبسبب حجب الغيرة الشديدة لعقل المرأة الغيراء تحدث ما نرى ونسمع من حالات اعتداء على الضرائر من قتل بالسم أو بالسحر ، وصب الزيت الحار على الوجوه ، وقتل الأولاد وإيقاعهم في المصائب عمدا ، وغير ذلك من التصرفات الحمقاء ، ولا شك أن الغيراء حين تقدم على مثل هذه الأعمال الشنيعة تكون قد فقدت عقلها أو نصف عقلها ، ولذلك تندم على ما فعلت بعد ذلك ، وقد تلجأ إلى الانتحار أو طلب الطلاق من زوجها لتخرج من المدينة أو القرية التي اقترفت فيها هذه الجرائم .
ولهذا يجب على الأزواج أن يتفهموا نفسية المرأة الغيراء ، لا لتبرير أعمالها الخاطئة أو تصويبها ، ولكن ليتعامل معها بطريقة موضوعية ، بل ليتفادى تعاطي كل ما يؤدي إلى هيجان الغيرة المستكنة بداخلها .
قال ابن حجر رحمه الله :وقوله :غارت أمكم )) اعتذار منه صلى الله عليه و سلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم ، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة ، فإنها مركبة في النفس ، بحيث لا يقدر على دفعها )) [4].
الفائدة الثانية : تضمين الغيراء فيما تتلف من الأموال ، ورد ظلمها .
ليس من المقبول السكوت عن تصرفات المرأة الغيراء المجاوزة لحدود العقل والشرع ، بل الواجب على القيم على المرأة الغيراء أن يحاسبها على تصرفاتها ويردها إلى صوابها ، ويمنعها من الظلم والاعتداء .
ولذلك لم يتردد النبي صلى الله عليه و سلم بالنطق بالحكم المناسب للتصرف التي صدر من إحدى أمهات المؤمنين تجاه أحداهن بحضرته صلى الله عليه و سلم ، وهو كما عند الترمذي طعام بطعام وإناء بإناء )) [5]، قال ابن حجر رحمه الله : قال ابن بطال : احتج به الشافعي والكوفيون فيمن استهلك عروضا أو حيوانا فعليه مثل ما استهلك ، قالوا ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل ، وذهب مالك إلى القيمة مطلقا ، وعنه في رواية كالأول ، وعنه ما صنعه الآدمي فالمثل ، وأما الحيوان فالقيمة ، وعنه ما كان مكيلا أو موزونا فالقيمة ، و إلا فالمثل ، وهو المشهور عندهم ، وأما ما أطلقه عن الشافعي فيه نظر ، وإنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء ، وأما القصعة فهي من المتقومات لاختلاف أجزاءها ، والجواب ما حكاه البيهقي : بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه و سلم في بيتي زوجتيه ، فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها ، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها ، ولم يكن هناك تضمين ، و يحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رآى ذلك سدادا بينهما ، فرضيتا بذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي كانت العقوبة فيه بالمال كما تقدم قريبا ، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى .
قلت :الكلام لابن حجر )) ويبعد هذا التصريح بقوله صلى الله عليه وسلم إناء بإناء )) ، وأما التوجيه الأول فيعكر عليه قوله في الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم من كسر شيئا فهو له وعليه مثله )) زاد في رواية الدارقطني فصارت قضية )) ، وذلك يقتضي أن يكون حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك ، ويبقى دعوى من اعتذر عن القول به بأنها واقعة عين لا عموم فيها ، لكن محل هذا ما إذا أفسد المكسور ، فأما إذا كان الكسر خفيفا يمكن إصلاحه ، فعلى الجاني أرشه ، والله أعلم .
وأما مسألة الطعام فهي محتملة لأن يكون ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجود المثل فيه ، لأنه ليس له مثل معلوم ، وفي طرق الحديث ما يدل على ذلك ، وأن الطعامين كانا مختلفين ، والله أعلم ، واحتج به الحنفية لقولهم إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب عنها ، وملكها الغاصب وضمنها ، وفي الاستدلال لذلك بهذا الحديث نظر لا يخفى ...)) . [6]